[الحقيقة الثانية: حقيقة الموت]
تأتي الحقيقة الثانية، الحقيقة المرة التي لا يودها أحد ألا وهي: الموت.
الموت مفرق الجماعات، مبدد الشعوب والأمم، قاهر الظلمة، لا يستأذن على أحد، ولا يخاف من أحد، يقول الله عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَاز} [آل عمران:١٨٥] هذا هو الفوز، وليس الفوز أن تبني عمارة، أو تنكح زوجة، أو تحتل وظيفة، أو يكون لك أي شيء في هذه الدنيا، فإن هذا فوز مؤقت محدد يزول بانتهاء الحياة، لكن الفوز يوم أن تزحزح عن النار وتدخل الجنة {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:١٨٥] ويقول عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:٣٥] ويقول عز وجل: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:٧٨] ويقول عز وجل: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:١٩] تحيد أي: تفر.
هل هناك شخص يريد الموت؟ كل شخص يرى أن الموت آتٍ فهو يهرب منه لا يريده، لكن الله عز وجل يقول: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة:٨] كل شيء إذا فررت منه تبتعد عنه إلا الموت، إذا فررت منه اقتربت إليه، أي شيء تفر منه من ثعبان أو أسد فإن المسافة تزداد بينك وبينه، إلا الموت إذا فررت منه تقرب المسافة بينكما، إذاً لا تفر منه، واقترب منه، فإذا اقتربت فإنك تصل وأنت سالم، لكن إذا فررت كأنك تستعجل الموت أيها الإنسان، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُم} [الجمعة:٨] وهل سمعنا أن أحداً استطاع أن يمتنع من الموت؟ قال عز وجل: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عليهمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:١٥٤].
والموت سنة كونية لا تأتي بالحوادث ولا بالحروب ولا بأي شيء، وإنما وفق تقدير الله، تجد حادثاً مرورياً يموت فيه عشرة أشخاص إلا طفلاً رضيعاً، أصحاب العضلات ماتوا والطفل الرضيع وجدوه في مهده معافى.
في الزلزال الذي حصل في مصر وجدوا شخصاً بعد ثمانين ساعة تحت الأنقاض، وأتوا عليه وهو سالم، لا هواء ولا ماء ولا غذاء والله كتب له النجاة، لماذا؟ لم يأذن الله بموته، ليس الذي يميت هو الزلزال أو البحر، أو الطائرات هذه أسباب لكن الذي يحيي ويميت هو الله، فإذا أراد الله أن تحيا حييت ولو كنت في البحر، أو الحريق أو الطائرة أو السيارة، وإذا أراد الله أن تموت فإنك تموت ولو كنت على فراشك.
امرأة كان لها ولد يدرس في أمريكا، وجاء يقضي إجازته عندها، وبعد ذلك انتهت الإجازة وأراد أن يرجع إلى دراسته التي يريد أن يكملها في أمريكا، وأمه تريد أن يطيل الإجازة ولا تريده أن يسافر، فأخبرها بأنه حجز على الرحلة الفلانية، وطلب منها أن توقظه قبل الرحلة بحوالي ساعتين أو ثلاث من أجل أن يدرك الطائرة، فتركته ينام ولم توقظه من أجل أن يستيقظ وقد فاتت الرحلة، فيذهب ليحجز من جديد فيطيل المكث معها، الأم تطمع في ولدها، وهو مسكين يريد أن يسافر، فلما نام وانتهت الرحلة وهو نائم قامت تسمع الأخبار وإذا بها تسمع خبر أن الرحلة التي كان مقرراً أن يركب فيها هذا الولد قد أقلعت من المطار، وعند نهاية المدرج حصل في الطائرة خلل فاحترقت، وهلك جميع الركاب الموجودين في الطائرة، والطائرة لا زالت في بداية الإقلاع، وأذاعوا البيان والتعازي -وكان ذلك في بلد عربي قبل سنوات- فالأم فرحت أن ولدها لم يسافر، وأنها كانت السبب في أنه موجود، فجاءت تبشره أن الله نجاه، فلما جاءته وجدته ميتاً في فراشه، فكان متوقعاً أن يموت في الطائرة فمات في فراشه.
آخر كان يعمل في عمارة في الدور السابع، وأثناء عمله فقد توازنه وسقط من أعلى، وأخذ يسقط على الألواح الخشبية الواحد إثر الآخر حتى سقط على كومة رمل أسفل العمارة، وإذا به واقف ولم يصبه شيء، فنظر فيمن حوله وضحك من الفرحة، والناس الذي رأوه يسقط من السماء يضحكون ويتعجبون من سلامته، وزملاؤه الذين معه في عجب، ففرح الرجل ومن فرحته قال لمن حوله: والله لأسقينكم شراباً، أي: بمناسبة السلامة، من أين يسقيهم شراباً؟ الشراب في بقالة مقابلة للعمارة، فقطع الشارع يريد أن يأتي بالشراب وكان ذلك مع مجيء سيارة مسرعة قطعته قطعة قطعة.
الله عز وجل قد قدر عليه أن يموت في تلك اللحظة وهو في الدور السابع على الألواح، ولو نزل بواسطة الدرج فسوف يتأخر، فالله أنزله بقوة، أنزله بسقطة من أجل أن يموت في تلك اللحظة، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:٨].
فحقيقة الموت مرة نعيشها ونستقبلها، ولكن ليس الموت هو المهم، يقول خبيب بن عدي:
وما بي حذار الموت إني لميتٌ ولكن حذاري جحم نار تلفع
والآخر يقول:
ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعده عن كل شيء
والآخر يقول:
لهوت وغرتك الأماني وعندما أتمت لك الأفراح فوجئت بالقبر
الإنسان يتعب طيلة حياته ويجمع ويبني، فإذا تزينت له من كل جانب، فكثرت الأموال، وزادت العمارات، وكثر الأولاد، وأصبح منعماً، جاءه الموت فأفسد عليه تلك الحال.
زرت رجلاً من الأثرياء جاءته تعويضات بالملايين عن أراضٍ له ومزارع وبيوت اخترقها مشروع حكومي، ولما صار عنده الملايين زرته، وإذا بالرجل مسكين في السبعين من عمره، وإذا به يكاد يتقطع قلبه من الحسرات والندامات، قلت: ما بك؟ قال: مصيبة يا ولدي، قلت: ما الأمر؟ قال: الملايين ما أتتني إلا وأنا كهل، يقول: ملايين وأنا كهل! ماذا أفعل بها؟ قلت: مم تشكو؟ قال: أشكو من السكري ولا أذوق شيئاً لا اللحم ولا الشحم ولا الرز لا آكل إلا خبزة يابسة مع فنجان حليب بدون سكر، والملايين موجودة في البنك، يقول: والمرأة لا أقدر على ضربها؛ لأنه كهل، يقول: والنوم لا يأتيني، يقول: أتمنى أن الملايين أتتني وأنا شاب، كنت استفدت منها، إذاً، قلت له: أتريد أن تستفيد منها؟ قال: نعم.
قلت: أرسلها إلى الآخرة حتى تستفيد منها، قال: هل تريدني أن أضيع مالي، قلت: أنت مضيع مالك لا محالة ولكن قدمه لك فلا تضيعه، ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت، يقول: إنك تريدني أن أضيع مالي، قلت: الذي يضيع ماله هو الذي يتركه، أما الذي يقدمه إلى الله عز وجل فإنه لم يضيّع نفسه ولا ماله، بل هو والله العاقل.