[الإنسان أمام التسيير والتخيير المكتوب عليه]
الآن الناس يموتون بغير اختيار، ولو أن الموت بالاختيار هل هناك أحد يموت؟ كل شخص لا يريد أن يموت، حسناً حينما يُخلقون يخلقون باختيار أم بغير اختيار؟ من الذي جيء إليه وهو في بطن أمه وقالوا له: ما رأيك تريد أن تخلق أم لا؟ إن الإنسان يخلق رغم أنفه وبغير اختياره، كذلك التحديد في النوعيات ذكر أو أنثى ليس باختياره.
بعد ذلك اللون الطول العرض الذكاء المواهب الزمن العمر كل هذه بغير اختيار، أنت أتيت ولم يؤخذ رأيك في كل قضاياك، وبعد ذلك تعيش فترة الحياة وأنت باختيار، لكن تموت بغير اختيار.
وهنا يبدو جواب على الناس الذين يقولون: الإنسان مسير أم مخير؟ نقول: هو مسير ومخير.
كيف؟ مثل الراكب الآن في الطائرة؛ عندما تركب من هنا إلى الرياض أو من هنا إلى جدة، أنت في عموم الرحلة مسير، هل تستطيع أن تنزل في الطائف؟ أو عندما تنظر إلى وادٍ وأنت فوق الطائرة تقول له: قف قف لأجل أن نقيل في هذا المكان، أو: متعب نريد أن نجلس هنا، لا، رحلة مصممة من أبها إلى جدة، لا تذهب إلا من هذا الخط فقط ولا يمكن أن تمر إلى غيرها، فأنت مسير، ولكن يمكنك أن ترقد على كرسيك، ويمكنك أن تقرأ جريدة أو قرآناً، وتقدر أن تأكل، أو لا تأكل، فأنت مخير في حدود كرسيك، لكن مع العموم مسير مع الناس كلهم، وكذلك أنت أيها الإنسان! مسير يوم خلقت، ومسير يوم تموت، ومخير بين الحياة والموت؟!! بإمكانك أن تهتدي، ومن يمنعك من الهداية؟ وبإمكانك أن تضل، ومن يمنعك من الضلال؟ إذا أذن المؤذن وأنت جالس في البيت فهل هناك قوة -إذا أردت أن تقوم وتصلي- تستطيع أن تأتي وتضغط على أرجلك وتشد عضلاتك وتضع (قف) على إمكاناتك ولا تقوم لتصلي؟ لا شيء يمنعك، لكن أنت لا تريد أن تقوم.
وآخر يريد أن يقوم ليصلي، هل هناك من جاء وسحبه بأنفه وقال: قم فصلِّ؟ لا.
ذهب إلى الصلاة باختياره، وذاك ترك الصلاة باختياره.
وآخران قُدِمَ لهما شرابان حليب وخمر، فأحدهما قال: أنا أشرب الحليب فقط، لماذا؟ باختياره، والثاني قال: أريد الخمر، لماذا؟ باختياره، هل هذا أجبر على الحليب، وهذا أجبر على الخمر؟ لا، بالاختيار، فأنت بين الموت والحياة بين البقاء وبين الإجلاء بين الوجود والعدم في فترة اختيار، ولذا كانت هذه الفترة فترة اختيار وفترة تكليف وتبعة ومسئولية؛ لأنه لو لم يكن لديك الاختيار لم يكن عليك مسئولية، والله منزه عن الظلم، كيف يخلقك ويعطيك الاختيار ولا يجازيك؟ أو كيف يخلقك ولا يعطيك القدرة على الاختيار ويجازيك؟ أمعقول هذا؟! ولذا ترون أن المجنون الذي سلب العقل مرفوع عنه القلم؛ لأن التكليف منوط بالعقل، فإذا لم يعط إنساناً عقلاً فهل يعرف كيف يتصرف؟ هل يعرف متى يدخل الوقت فيقوم ويصلي؟ هل يعرف حلالاً وحراماً، هل يعرف واجباً وفرضاً؟ لا يعرف شيئاً فهو مجنون، فالله لعدله رفع عنه التكليف: (رفع القلم عن ثلاثة -يعني: المسئولية والعهدة- المجنون حتى يعقل، والصغير حتى يبلغ، والنائم حتى يستيقظ)، فلما لم يكن هناك عقل فليس هناك تكليف، لكن إذا وجد العقل ووجد الاختيار والقدرة على سلك سبيل الخير أو سلك سبيل الشر ثبت الاختيار، وثبتت معه العهدة والمسئولية؛ لأنك تعصي الله باختيارك فتحل النتيجة باختيارك، وتطيع الله باختيارك فتجد ثمرة اختيارك.
ولا يقل أحد الناس: لا، أنا مكتوب عليَّ أن أعصي، ولهذا لا أستطيع إلا أن أعصي، لماذا تزني؟ كان مكتوباً.
حسناً تعال إلى هذا الإنسان الذي يقول: مكتوب واضربه على وجهه بكفك، وإذا قال: لماذا ضربتني على وجهي؟ فقل له: مكتوب، والله كتب في الأجل أني سأضربك على وجهك، هل يرضى بالكتاب عليه بالصفعة هذه؟ ما رأيكم يرضى ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، جزاك الله خيراً، والله إنك صادق وأنه مكتوب علي.
ويومه الثاني يرضى؟ لا، أبداً لا يرضى.
حسناً هذا الرجل إذا استلم الراتب ووضعه في جيبه فقفزت وأخذت راتبه كله، وبعد ذلك يمسكونك ويقولون: ماذا بك؟ فتقول: الله كتب عليَّ أن أسرقه! هل هذا عذر يقبله الناس ويقبله هذا الذي أخذت عليه ماله؟ لا يقبل القضاء والقدر في ما يتعلق به، لكن في ما يتعلق بربه يقبله، يزني ويقول: إن الله كتب عليَّ ذلك، ويسرق ويقول: إن الله كتب عليَّ ذلك، ويشرب الخمر ويقول: إن الله كتب عليَّ ذلك سبحان الله!