للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نظرة إلى أصل الوجود الإنساني تقرر وجود الخالق]

يقول الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} [الأنعام:٢] هذه نظرة إلى أصل الوجود الإنساني، وأنه مخلوق من طين، وفي هذا لمسة وإشارة إلى أن الإنسان لا ينبغي له أن يتكبر، أو يتعاظم، أو يفخر وأصله من طين، بل عليه أن يعرف أصله وأساسه، كما قال الله عز وجل: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق:٥ - ٧].

قيل: إن الحسن البصري قال للمهلب: أنت الذي خرجت من موضع البول مرتين: الأولى من ذكر أبيك، والثانية من رحم أمك، خرجت من ذكر أبيك وأنت نطفة، ثم خرجت من رحم أمك وأنت طفل صغير، ثم رباك الله بالنعم، وزودك بكل هذه الإمكانيات فلا تنس أصلك.

{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ} [الأنعام:٢].

الأجل الأول: أجل الحياة، أجل الإنسان الذي يعيشه ثم يموت، والأجل المسمى عنده: الأجل العام، أجل تدمير الحياة كلها، وقيام الناس من قبورهم للبعث وللحساب {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:٦].

{ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} [الأنعام:٢] وصف الله سبحانه الكافر في الآية الأولى بقوله {يَعْدِلُونَ} [الأنعام:١]، وهنا قال الله سبحانه: {تَمْتَرُونَ}، والمرية هي: الشك، أي: تشكون في الله {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم:١٠].

ويقول الله: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:٢١] أيبقى مجال للشك أو المرية بعد كل هذه الدلائل؟! خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، وخلقكم من طين، وقدَّر آجالاً مسماة عنده، وآجالاً معروفة مكشوفة للناس في عالم الحياة {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} [الأنعام:٢]؟! ثم يقول الله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام:٣] لا تغيبون عنه، إنه مالك الملك عالم الغيب والشهادة {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام:٣] أي: يعلم ما تقترفون، وما تعملون من عمل، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

إن الذي خلق السماوات والأرض هو الله المتفرد بالألوهية، وكل مقتضيات الألوهية متحققة فيه ولا ينازعه فيها أحد، ومقتضيات الألوهية: الخلق الرزق التدبير الإحياء الإماتة النفع الضر تعاقب الليل والنهار الرفع الخفض البسط القبض الإعطاء المنع كل هذه من الله ولا ينازعه فيها أحد؛ لذا فهو الإله الحق المستحق للألوهية والعبودية.

لقد خلق الله عز وجل الإنسان كما خلق السماوات والأرض وهو في تكوينه من الطين، وما رزقه الله من خصائص فهي بنعمة منه وفضل، والأليق للإنسان وهو يعرف أصله: أن يتبع سنّة الله عز وجل فيما يعتقده من عقيدة، ويتصوره من تصورات، ويعيشه من حياة؛ لتستقيم حياته مع سنن الله عز وجل، ومع الحياة التي سنها الله في الكون حين تحكمها شريعة الله، ولكي لا يناقض بعضها بعضاً، ولا يصادم بعضها بعضاً، ولا يمزق بعضها بعضاً.

إن هذه الآيات -أيها الإخوة- إنما تخاطب العقل البشري بدليل الخلق، فإن العقل يقف عند هذه الدلائل موقف المسلِّم ولا يستطيع أن يناقش أو يجادل بدليل الإحياء: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} [الأنعام:٢] ثم بدليل الإيحاءات التي تقذفها هذه الآيات في النفس، فتوقظ الفطرة وتحركها في صورة التقرير لا في صورة الجدل، وبسلطان اليقين المنبعث من تقرير النفس البشرية من داخلها، ومن شهادة الفطرة الداخلية بصدق هذا التقرير الذي تراه مبثوثاً في كل معالم الكون.

فوجود السماوات والأرض وتدبيرها على هذا النسق وعلى هذا النظام، ونشأة الحياة، وحياة الإنسان كلها تواجه الفطرة بالحق وتوقع فيها اليقين بوحدانية الله، والوحدانية هي القضية التي استهدفتها السورة من أولها إلى آخرها.

إن مشركي العرب ما كانوا يجحدون وجود الله، ولهذا ليس هناك من نبي بعثه الله إلا وهو يقول للناس: أن آمنوا بوجود الله كما قال الله عز وجل في القرآن: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [المائدة:١١٧] لأن قضية وجود الله فطرة في النفس لا تستطيع أن تغالطها، والذين كانوا يغالطونها تركوا المغالطة، فالدهريون الذين يقولون: (لا إله والحياة مادة) -وهم الشيوعيون في الأزمنة الماضية- رجعوا، والشعوب التي مورس ضدها الاضطهاد عن طريق قصرها على الإلحاد خرجت بعد سبعين سنة من النظام الشيوعي لتعلن أنه لا بد من إله، لأن معنى أن الإله غير موجود: أنك أنت لست موجوداً أيها الإنسان؛ لأن وجودك دليل على وجود الله، من أوجدك؟! فالبعرة تدل على البعير، وأثر القدم يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، أفلا تدل على السميع البصير! إن عدم إيمان الإنسان بوجود الله معناه: أنه لا يؤمن بوجود نفسه، وهل هناك إنسان عاقل يلغي وجود نفسه؟! أبداً.

فقضية وجود الله لا جدال فيها بين العقول أبداً في القديم والحديث، إنما المشكلة في قضية وحدانية الله؛ لأن النفس البشرية اتخذت آلهة، فعبدوا الحجر، والشجر، والشمس والقمر، والبقر، اتخذوا أصناماً وآلهة متعددة، فجاء الإسلام ليلغي ويبطل هذه الآلهة المزعومة، ويبين ويثبت أن الله هو الإله الحق, ولهذا كل نبي يقول لقومه: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح:٣] اعبدوا الله واتقوه وخافوه وحده، وأطيعوني في الشرع الذي بعثني الله عز وجل به.