[مساومة المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم]
لما عجزت كل هذه الأساليب في رد النبي صلى الله عليه وسلم ومنعه عن مزاولة الدعوة، لجئوا إلى أسلوبٍ آخر: هو المساومة، أي: نعطيك شيئاً وتترك لنا شيئاً، وهو أن يعملوا شيئاً من الدين ويعمل هو شيئاً من الشرك، وقالوا له: اعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، هذا عدل، أما أن تريد منا جميعاً أن نعبد إلهك ونترك آلهتنا {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:٥] فقالوا له: إن كنت منصفاً وعادلاً، فنحن نوافقك على أن تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، لكن لا تنفع أوساط الحلول بين الشرك والإسلام، وبين الكفر وبين الحق والهدى، لا يوجد إلا نور، إما أسود وإما أبيض، وإذا أخذت القليل فلا يصح، فأنزل الله عز وجل عليه: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} [الكافرون:١ - ٤] كررها للتأكيد {لَكُمْ دِينُكُمْ} [الكافرون:٦] وهو الكفر ودين الشرك {وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:٦] وهو التوحيد ودين الإسلام.
وهذه تمثل الآية التالية: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:٣] قاعدة الثبات على العقيدة، وعدم الرضا بالمساومة، لا مساومة على الدين، إما حق وإما باطل، وإما تنازلات في عقيدة المسلم، لا.
لأنك بقدر ما تتنازل بقدر ما تضيع من دينك.
وساوموا عمه على هذا، ولكنه كما قال صلى الله عليه وسلم: (والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه).
لم يوافقهم النبي صلى الله عليه وسلم على هذه المساومة بدءوا بالتحرش المباشر، بسب القرآن، وبسب الرسول صلى الله عليه وسلم، وبسب الذات الإلهية، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، روى البخاري ومسلم في قوله سبحانه وتعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء:١١٠] أن ابن عباس قال: [نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم مختفٍ بـ مكة، كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمع المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به، فقال الله لنبيه: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} [الإسراء:١١٠] أي: بقراءتك، فيسمع المشركون قراءتك فيسبوا القرآن {وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء:١١٠] حتى لا يسمع أصحابك، {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [الإسراء:١١٠] وهي القراءة المعتدلة التي يسمعها أصحابك فيستفيدون، ولا يسمعها المشركون فيسبوا الله ويسبوا الرسول صلى الله عليه وسلم] وفي هذا إرشاد نبوي وتوجيه للدعاة إلى أن تكون مواقفهم مواقف معتدلة، ومواقف مصلحة ومنفعة للدعوة، من غير تعنت ولا اندفاعات ولا مواقف فيها نوع من التشنجات، إنما للمصلحة التي من أجلها شرعت القراءة، من أجل أن يسمعها المسلمون بعدك، فلا داعي أن ترفع صوتك حتى يسمعك الكفار فيسبونك ويسبوا القرآن، لا.
بل نهى الله أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم عن سب آلهة المشركين، قال: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:١٠٨] لأن المسلمين كانوا يسبون أصنام الكفار، فأخذ المشركون يسبون الله، فنهاهم الله.
وفي هذا تعليم للمسلم أنه إذا كان يترتب على فعلك لأمرٍ معروف مشروع، فعل منكر أعظم لزمك ألا تفعل هذا المشروع، فسب آلهة الكفار أمر مشروع وأمر من الدين أن تسب اللات والعزى والأصنام، لكن لما كان يترتب على هذا السب منكر أعظم؛ وهو أن يسبوا الله، قال الله: لا تسبوا آلهتهم، ولهذا ذكر ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين أن شيخ الإسلام ابن تيمية مر على قوم من التتر وهم سكارى، فأراد بعض تلامذة الشيخ أن يأمرهم وينهاهم عن المنكر عن الخمر، فمنعه الشيخ، فاستغرب الطالب؛ لأن الشيخ كان أمَّاراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، ومن أبرز الناس في الأمر والنهي، فقال له: إنما حرم الله الخمر؛ لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء -أي: التتر- تصدهم عن قتل المسلمين وهتك أعراضهم، فدعهم وما هم فيه.
يقول: اتركهم سكرانين؛ لأنك إذا أقمته من السُكر لا يقوم يصلي ويذكر الله بل يقوم يقتل المسلمين ويعتدي على أعراضهم، فأنت عملت أمراً مشروعاً وهو الأمر بالمعروف، لكن ترتب على الأمر المشروع هذا أمر أنكر منه وهو قتل المسلمين، إذاً لا تفعل.
هذه قاعدة من قواعد التغيير التي ذكرها ابن القيم وهي أربع درجات: الدرجة الأولى: أن يزول المنكر ويعقبه المعروف، فهذا مشروع باتفاق أهل العلم.
الدرجة الثانية: أن يزول المنكر ويعقبه منكر لكن أقل منه، أي: المنكر (١٠٠%) بالتغير يصبح (٥٠%) هذا -أيضاً- مشروع بالاتفاق.
الدرجة الثالثة: أن يزول المنكر ويعقبه منكر مثله في درجته، فهذا موضوع نظر واجتهاد.
الدرجة الرابعة: أن يزول المنكر ويعقبه منكر أعظم منه، فهذا محرم بالاتفاق، مثلاً: رجل لا يصلي في المسجد ويصلي في بيته، فغضب عليه رجل، بدل أن يدعوه إلى الله ويمارس معه أسلوب الدعوة غضب عليه وهجره، ولم يعد يزوره في البيت، وأبلغه أنه لا يدخل عليه، فسأل هذا وقال: لماذا هو غضبان؟ قالوا: لأنك لا تصلي في المسجد، قال: هذا الذي أغضبه؟ قال: والله لا أصلي حتى في البيت من أجله.
هذا هو التغيير الذي لا يريده الشرع، لماذا؟ لأن الهجر دواء، فإذا كان ينفع استعمله، وإذا كان يضر لا تستعمله؛ لأنك إذا هجرته زدته عناداً، لكن لو هجرت زوجتك لا يزيدها عناداً؛ لأنها محتاجة لك، تبحث عن رضاك، لو هجرت ولدك، ما يزيده عناد؛ فهجرك للولد، وهجرك للزوجة، وهجرك للعامل، ولمن تحت يديك وهو محتاج إليك فهذا مشروع، لكن هجرك للناس فهذا ولد الناس، وعلم أنك غضبان، قال: ما شأني وشأنه؟ ما دام أنه غضبان هكذا أغضبه أكثر، والله لا أركع ركعة، فترك الصلاة، هرب من فعل المحرم الذي هو ترك الصلاة في المسجد فوقع في الكفر والخروج من الملة بتركه للصلاة، من الذي حمله على هذا؟ موقف الأخ، أراد أن يكحله فأعماه، ما معنى هذا المثال؟ رأى عنده مرضاً في عينيه، فأخذ المكحل يريد أن يداويه بالمكحلة فأعماه بالكلية، وهذا من الخطأ، فإن من فقه الدعوة: أن تعرف هل التغييرات في صالحك أم في صالح الشر، فمتى كان التغيير مضموناً في أن نتائجه حسنة بعد دراسة وبعد تأمل ونظر من قبلك، اعمل، أما إذا عرفت أن في ذلك ضرراً ومنكراً أعظم من المنكر الذي عليه هذا الرجل، فعليك أن تسلك أسلوباً آخر.