[كلام ابن مسفر عن أهمية التفكر في كلام الله ومجالاته]
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
وبعد: أيها الأحبة في الله: الفكر والنظر والتأمل والاعتبار هو الخطوة الأولى التي تسبق قيام الإنسان بأي عمل في هذه الحياة، وعلى ضوء سلامة الفكر تتحدد سلامة الخطوات التي يخطوها الإنسان في هذه الدنيا، وهو شيء أمرنا الله عز وجل به، أمرنا بالنظر فقال الله عز وجل: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق:٦ - ٨] إلى آخر الآيات، وأمرنا بالتفكير، فيقول عز وجل: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر:٢] وفكر المسلم فكر نير لا يسير ولا يتجه إلا في الاتجاه الصحيح، يفكر في شيء مهم: كيف ينجو من عذاب الله؟ كيف يفوز بجنة رب العالمين؟ كيف يدخل الجنة؟ كيف ينجو من النار؟ يفكر في كل خطوة يخطوها، يفكر في كل نظرة ينظرها، يفكر في كل كلمة يتلفظ بها، يفكر في كل تصرف يتصرف به، وأثره عليه؛ أثره عليه في هذه الدار، وأثره عليه عند الموت، وأثره عليه في القبر، وأثره عليه في أرض الحشر، وأثره عليه في الجنة أو النار، هذا الفكر فكر نير، فكر رباني، وهو يأتي نتيجة فهم الإنسان لحقيقة الحياة، من فهم الحياة فهماً حقيقياً منبعثاً من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان تفكيره سليماً، أما من فهم الحياة فهماً مغلوطاً، فهماً بهيمياً، فهم منها ما تفهمه الحيوانات والبهائم والأنعام، فحصر اهتماماته وتفكيره في شهواته، كيف يأكل؟ كيف يشبع؟ كيف ينكح؟ كيف يلبس؟ كيف ينام؟ كيف يسكن؟ كيف يتوظف؟ كيف يركب؟ هذه مُتع، هذه أفكار بهيمية لا تعدو هذه الحياة.
أما المؤمن المسلم فإنه يفكر تفكيراً يختلف عن هذا.
أجل فيم يفكر المسلم؟ يفكر أيها الإخوة -كما يقول الشيخ ابن القيم عليه رحمة الله في كتابه البديع: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي - ويقول قبله: إن على المسلم إذا أراد النجاة أن يحفظ أربعة أشياء: أولاً: الفكر أي: الأفكار.
ثانياً: النظر.
ثالثاً: اللفظ.
رابعاً: الخُطا.
فإن هذه هي المسارات التي يسلك بها الإنسان طريقه إما إلى الجنة وإما إلى النار، فمن حفظ أفكاره فلم يفكر إلا في خير، وحفظ نظراته فلم ينظر إلا في حلال، وحفظ ألفاظه فلم يلفظ إلا في حلال، وحفظ خطواته فلم تحمله خطواته إلا فيما يرضي الله، فهذا اكتب له السعادة وادع له بالجنة بإذن الله.
أما من ضيع أفكاره يهيم بها في كل واد، وضيع نظراته ينظر بها إلى كل جميل ولو كان حراماً، وضيع ألفاظه يخوض بها في كل ميدان، وضيع خطواته يخطو بها إلى كل مكان، هذا ضائع ضال، وسوف يعض على يديه يوم القيامة ويقول: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:١ - ٢].
فيا أخي: من الآن حدد خطواتك ونظراتك وألفاظك، وحدد فكرك واهتماماتك.
ثم يقول: إن فكر المسلم لا يعدو خمسة أشياء سوف نتحدث عنها إن شاء الله بشيء من الاقتضاب والاقتصار؛ لأن كل عنصر يحتاج إلى محاضرة: - الفكر الأول: التفكر في كلام الله، في القرآن الكريم، الكلام العظيم الذي هو هداية ونور، يقول الله فيه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى:٥٢ - ٥٣].
تفكير المسلم يحتل جانباً كبيراً منه القرآن الكريم، ولهذا الصحابة لما نزل عليهم القرآن أطار النوم من أعينهم، لم يعد إلا التفكر في الآخرة التفكر في الجنة التفكر في النار، التفكر في الوعد، التفكر في الوعيد، التفكر في الخبر، التفكر في الحكم، كلٌ مع القرآن، ولهذا لم يَبْقَ في حياة المسلم فراغ لغير القرآن، يقول أحد السلف: آيات القرآن أطرن النوم من عيني.
ولكن ما مجال الفكر في القرآن؟ كثير من الناس يريد أن يعتبر ويتدبر القرآن لكنه لا يدري ما المجالات والطرق والمسارات التي توصله إلى الفكر القرآني، الله عز وجل دعانا إلى التفكر، يقول الله عز وجل: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:٢٩].
ويقول عز وجل: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:٢١].
ويقول عز وجل: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:٨٢].
ويقول عز وجل: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:٢٤].
هذا هو السبب على القلوب الآن أقفال، ما يدخل الفكر القرآني في القلوب، أقفال ماذا؟ أقفال الدنيا، أقفال الشهوات، أقفال الشبهات، أقفال الغفلة، أقفال نسيان الآخرة.
أما إذا انفتح القلب والله ما يسأم من كلام الله، يقول ابن القيم: والله لو صحت منا القلوب ما شبعت من كلام الرحمن.
مسارات ومجالات التدبر لكتاب الله عز وجل كثيرة: