الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
وبعد: أيها الإخوة في الله! القوة مطلوبة، والمؤمن مطالب بأن يكون قوياً؛ لأن الحياة لا تعترف إلا بالقوي، الضعيف يرفض ويداس بالأقدام؛ خصوصاً حينما تغيب شريعة الرحمن، وتسود شريعة الغاب، والله عز وجل يأمر بإعداد القوة فيقول:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}[الأنفال:٦٠] ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍ خير).
والقوة المطلوبة قوة شاملة، قوة في الإيمان والأبدان والعلوم والاقتصاد، وكل مناحي الحياة:(المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير).
وحينما تذكر القوة لا يتبادر إلى أذهان الناس إلا القوة المادية؛ لأن العقول تلوثت وحصلت فيها تصورات غريبة على الإسلام، حينما يعتمد الناس على قوة المادة وينسون قوة الله، فإذا ذكرت لهم (القوى) فلا تنصرف الأذهان إلا إلى قوى المادة، وينسون قوة الإيمان والأرواح، رغم أن أهمية قوة الروح والإيمان أعظم بملايين المرات من قوة الأبدان والسلاح، لماذا؟ لأن الله عز وجل ينصر بالإيمان ولا ينصر بقوة السلاح، والتاريخ أمامنا، وبالاستقراء نعرف كيف حصل هذا؟ ففي غزوة بدر خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومجموعة من أصحابه ليس فيهم إلا اثنان من الخيالة فقط، وما خرجوا لقتال، إنما خرجوا لاقتطاع القافلة التي كانت تأتي بالتجارة لقريش من الشام إلى مكة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في حرب مع قريش، ومن حقه أن يقطع عليهم الطريق، فلما علم أن القافلة قادمة من الشام خرج لقطعها، ولما علم أبو سفيان -وكان أمير القافلة- نجا بها عن طريق الساحل، وعلمت مكة بخروج النبي لاقتطاع القافلة فخرجت عن بكرة أبيها؛ بقضها وقضيضها، وحدها وحديدها، ورجالها ونسائها يبلغون ألف مقاتل، ولما بلغهم أن القافلة قد نجت اختلفوا، فقال قائل منهم: نحن خرجنا لإنقاذ القافلة وما دام أن القافلة قد نجت فلم نقاتل؟! وقال الفريق الثاني: ما خرجنا للقافلة فقط، خرجنا لنستأصل شأفة الإسلام من أساسه، لنقضي على محمد، فإنه إن نجت القافلة اليوم لن تنجو غداً، ويقول أبو جهل: والله ما نرجع حتى نصل بدراً، ونشرب الخمر، ونضرب الطبول، وتعلم العرب أننا قد انتصرنا على محمد، وأيد هذا النداء في قلوبهم الشيطان، قال لهم: إني جار لكم، وقال لهم: لا غالب لكم اليوم من الناس، وقال: إني معكم، ولما حصلت المواجهة بين قوى الإيمان ممثلة بالصحابة وهم ثلاثمائة وبضعة عشر، بدون سلاح إلا سلاح الإيمان، وبين قوى الكفر الممثلة في قريش بجميع أسلحتها وعددها؛ كانت القوى غير متكافئة، فتدخلت قوة الله لتغليب جانب قوى الإيمان، وأرسل الله ملائكة، أمدهم الله بألف جندي من جنود السماء، وهذه أول معركة تشترك فيها الملائكة مواجهة بالإنس، وما كانت تعرف الملائكة كيف تقتل الناس؛ لأنها لا تعرف كيف تقاتلهم؟ فالله علم الملائكة فقال:{فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}[الأنفال:١٢] من أراد الله قتله ضربته الملائكة في رقبته، ومن أراد الله تعويقه دون قتلٍ ضربته الملائكة في أصابعه فتطيح الأسلحة من يده، تتقطع البنان وهي الأصابع:{فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}[الأنفال:١٢] وقتل الكفار، وانتصر الإسلام يوم الفرقان.
وتدور عجلة الزمن إلى أن يحصل الفتح ويدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة منتصراً، ثم يجهز الجيش على قبيلة ثقيف وهوازن، ويخرج اثنا عشر ألف مقاتل ثلاثمائة، ولكنهم اعتمدوا على قوتهم، وقال الله عز وجل:{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ}[التوبة:٢٥] وكانت ثقيف وهوازن قد استحكموا في رءوس الجبال، فأمطروهم بالنبال، وضربت النبال في وجوه الخيول ورءوس الجمال فانتكست ورجعت، ثم من أراد أن يقف لا يستطيع لأن الجيش كله يرجع إلى الخلف، فهرب كل الناس حتى قال قائلهم: والله ما يردهم إلا البحر، ولم يثبت في ذلك اليوم إلا الرسول صلى الله عليه وسلم ومائة صحابي فقط، كان ينادي عليه الصلاة والسلام:(يا أهل بيعة الرضوان! يا أهل سورة البقرة! أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) قال الله عز وجل: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا}[التوبة:٢٦] اثنا عشر ألفاً ما نفعوا لكن مائة مع الله نفعوا، فأقوى قوة يجب أن نعدها هي قوة الإيمان؛ لأننا منصورون بدون شك، وإذا قلت الإمكانات نصرنا الله عز وجل بجنود السماوات والأرض:{وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}[الفتح:٤] الريح جنود، الملائكة جنود، الأمطار جنود، التثبيت المعنوي جنود، كل هذه جنود إذا تدخلت في المعارك لا يستطيع أحد أن يغلبها؛ لأنها قوة الله، والله تعالى يقول:{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ}[آل عمران:١٦٠] لا يغلبك أحد إذا نصرك الله: {وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ}[آل عمران:١٦٠] وتركيز الناس فقط على قوى المادة مع إهمال قوى الدين والإيمان والروحانيات دليل على خلل في تصوراتهم وأفكارهم، ينبغي تصحيح هذا الخلل.