للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الإعجاز في خلق الكلية ووظيفتها]

هناك جهاز واحد فقط أتكلم عنه باختصار؛ لأن أمراضه شائعة في هذا الزمان، وهو الفشل الكلوي.

الكلية ركبها الله في ظهر كل إنسان، والكلية الواحدة أصغر من قبضة الكف، وتحتوي كل كلية على ثلاثة ملايين وحدة تنقية، أي: مركب لك أنت الآن ستة ملايين وحدة تنقية، وتستطيع أن تعيش بكلية واحدة، ولكن الله عز وجل ركب لك اثنتين من أجل إذا مرضت واحدة عملت بالثانية، أو إذا مرض أخوك أو أبوك أو زوجتك وتريد أن تسعفه تعطيه إحدى كليتيك، وتموت أنت ولديك كلية واحدة، هذه الكلية مهمتها استقبال الدم وتنقيته وتخليصه من السموم والشوائب والأملاح والأخلاط التي ترادفه ثم تحول هذه السموم والأخلاط إلى البول، والبقية من الدم يرجع إلى الجسم وقد تصفي مائة في المائة.

وقد يحصل للإنسان مرض يسمونه مرض الفشل: وهو أن الكلية لا تستطيع أن تؤدي دورها كاملاً في تنقية الدم، فكان الناس في الماضي يعانون حتى الموت، لكن مع تقدم الطب استطاعوا أن يقوموا بإيجاد أجهزة يسمونها الكلية الصناعية، هذه الأجهزة تقوم بوظيفة الكلية، لكن ليس بكل وظائفها وإنما تقوم فقط بعشرة في المائة من وظيفة الكلى، وهي تخليص الدم من السموم، أما جميع الأشياء فلا، والكلية الصناعية كبيرة جداً، وفيها أجهزة معقدة وأشياء تبهر العقل، ومع هذا تحتوي كل كلية صناعية على خمسين ألف وحدة تنقية، بينما كليتك الصغيرة تحتوي على ثلاثة ملايين وحدة تنقية، والجهاز الكبير هذا يحتوي على خمسين ألفاً فقط، تصور إذا أردنا أجهزة على عدد وحدات كلية إنسان، كم نحتاج إلى أجهزة؟ نحتاج إلى عشرين كلية صناعية من أجل أن توفر مليون وحدة تنقية، أي: ستون كلية صناعية تقوم بدور واحدة فقط من كليتيك، أي: مائة وعشرون كلية صناعية تقوم مقام كليتين معلقتين في ظهرك وزن الواحدة منها ثلاثمائة جرام، أو مائتان وخمسون جراماً، هذه الكلى التي معك لا تعلم بنعمة الله عليك فيها، فأنت تأكل الطعام وتخرج منك هذه الفضلات، ولو حبس الله فيك البلاء لمت.

أحد الإخوة أصيب بفشلٍ كلوي، فأصبح يغسل الدم مرتين كل أسبوع، يأتي يوم الأحد والأربعاء من كل أسبوع، ويجلس ساعتين تحت الكلية الصناعية، يسحبون دمه كله ويذهب في الكلية الصناعية ويرجع من هناك ويخرج وهو متعب يحتاج إلى ساعات من الراحة بعد هذه العملية الشاقة، وبعد ذلك تبرع له أحد أقاربه بكلية بشرية، وعملت له عملية، ونجحت العملية والحمد لله، يقول هذا الأخ: بعد انتهاء العملية كانت أول مرة أذهب فيها إلى دورة المياه منذ أكثر من خمس سنوات، فالبول من أين يأتي؟ عن طريق الكلية، فالذي عنده غسيل صناعي لا يبول أبداً، يقول: لما دخلت دورة المياه وخرج مني هذا البول حمدت الله حمداً لا أشعر بأن في الدنيا أعظم مني حمداً لله عز وجل، لماذا؟ يقول: لأنه خرج مني هذا الشيء بسهولة، كان يخرج مني بعد تعب عن طريق الكلية الصناعية، وأنت -يا أخي- الآن تعيش هذه النعمة ولا تقدر نعمة الله عليك.

كان أحد العلماء عند أحد الخلفاء، وكان يوماً شديد الحر، فعطش الملك فقال لخادمه: عليَّ بالماء، فجاءوا له بالماء، فلما أراد أن يشرب، قال له العالم الذي بجانبه: يا أمير المؤمنين! لو حبست عنك هذه الشربة إلا بنصف ملكك أكنت تفتديها؟ قال: نعم.

لأنه سوف يموت عطشاً، ماذا يعمل بملكه وليس معه ماء، قال: تفضل اشرب فشربها، فلما شرب وارتوى أراد أن يقوم، قال: إلى أين؟ قال: إلى الحمام، يريد أن يخرج هذه الشربة، قال: لو حبست فيك تلك الشربة إلا بالنصف الثاني من الملك أكنت تفتديها؟ قال: نعم.

أفتديها، قال: والله لا أحزن على ملكٍ لا يساوي شربة ماء ولا دفقة بول.

فخلقك عجيب -أيها الإنسان- وهو آية من آيات الله تبارك وتعالى الذي خلقك على هذه الهيئة، يقول الله عز وجل: {فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق:٥ - ٦] المني {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق:٧ - ٨] ويقول عز وجل: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس:١٧ - ١٩] ويقول: {كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} [المعارج:٣٩] يتنزه الله عز وجل أن يذكر ذلك، كأنه يقول لنا: إنه يعلم من أي شيء خلقنا؟ من أي شيء؟ مما يعلمون {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} [المعارج:٤٠ - ٤١] يقول الله: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ * كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} [عبس:١٧ - ٢٣] ويقول عز وجل: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [المرسلات:٢٠] لماذا تتعالون على الله وتتكبرون؟ لماذا التغطرس؟ أبالمال؟ المال مال الله.

أبالخلق؟ الخلق من الله.

أبالعز والجاه؟ الجاه من الله، يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، إذاً لا مبرر لأن تتكبر -أيها الإنسان- لا مبرر لأن تتعالى -أيها الإنسان- إنما تتعالى بشيءٍ يحصل منك، وليس يحصل منك شيء قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:٥٣] يقول عز وجل: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} [الزمر:٦] ظلمة الرحم، وظلمة البطن، وظلمة المشيمة: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر:٦] نطفة، ثم علقة، ثم مضغة: {خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر:٦] وهذه العملية تتم أمامنا في كل يوم، ونشهد كل يوم مولوداً يولد، ويبشر بقدومه إلى هذه الحياة، مَنْ خَلَقَه؟ إنه الله الذي لا إله إلا هو.

هذه الحقيقة الأولى: حقيقة الخلق والإيجاد.