للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قصة الخضر وموسى عليه السلام]

القصة الثانية: قصة الخضر وموسى عليه السلام، التي أوحت بأن الأمور لا تجري على حسب الظاهر منها، بل ربما يكون الأمر خلاف الأمر الظاهر، وفيها إشارة لطيفة إلى أن الحرب القائمة بين المستضعفين من المسلمين وبين الأقوياء والكبراء والعظماء من المشركين ستنعكس تماماً، وستكون النتيجة بخلاف الظاهر ستكون الغلبة في النهاية لأهل الإيمان وستكون الهزيمة على أهل الكفر كما حصل في قصة موسى مع الخضر؛ لأن موسى وقف خطيباً في بني إسرائيل، وقال: ليس على الأرض من هو أعلم مني -ولم يستثن- ولم يقل: إن شاء الله، فالله سبحانه وتعالى أوحى إليه، قال له: يوجد في الأرض من هو أعلم منك، قال: أين هو يارب؟ قال: في مجمع البحرين؛ ومجمع البحرين منطقة يلتقي فيها البحر الأبيض المتوسط بـ المحيط الأطلسي في مضيق يسمى: مضيق جبل طارق - طارق بن زياد - وأين هذا الموقع؟ أتدرون أين؟ في جنوب أسبانيا وشمال المغرب، هذا الجبل جبل طارق، لكن أين هو اليوم؟!! -الله المستعان- كيف ضعفت الأمة، قال له ربه: هذا العبد الصالح في مجمع البحرين، وأين كان يعيش موسى؟ كان يعيش موسى في فلسطين، فكانت رحلة شاقة؛ يقطع فيها هذه المنطقة من طرف آسيا إلى غرب إفريقيا؛ يقطع مصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب كلها، قال: رب: أريد أن أطلب العلم عنده، قال: اذهب، فخرج موسى عليه السلام -والقصة في الصحيحين - وذكرها المفسرون عند ذكر الله عز وجل لأصحاب الكهف في سورة الكهف: خرج موسى ومعه فتاه يوشع بن نون، وسأل الله أمارة، قال: رب: إذا لقيته فكيف أعرف أنه هو؟ قال: العلامة أن تعود الحياة إلى هذا الحوت، وكان معهم حوت مملح مقدد جاهز للأكل -ميت من زمان- قال: إذا عادت الحياة إلى هذا الحوت ستجد هذا العبد الصالح الذي هو أعلم منك.

ومشى وقطع الرحلة الطويلة سيراً على الأقدام، حتى إذا وصلوا إلى مجمع البحرين، قال لغلامه: {قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} [الكهف:٦٢] يقول: تعبنا، وفعلاً سفر متعب، قال: {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً} [الكهف:٦٣] يقول: في ذلك المكان اتخذ الحوت سبيله في البحر {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} [الكهف:٦٤] يقول: هذا الكلام الذي نريد، يقول موسى: هذه هي الأمارة، أي: عودة الحياة للحوت -أو الدخول في الماء- نريدها: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً * فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} [الكهف:٦٤ - ٦٥] وهو الخضر عليه السلام، والخضر ليس نبياً كما يزعم بعض الناس، لا.

ليس نبياً، وإنما هو عبد صالح من عباد الله، آتاه الله عز وجل علماً لدني، أي: من لدن الله سبحانه وتعالى {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} [الكهف:٦٥] فعرض عليه موسى أن يستصحبه، قال: {هَلْ أَتَّبِعُكَ} [الكهف:٦٦] من أجل أن يطلب العلم على يده، فقال له الخضر: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:٦٧]؛ العلم يحتاج إلى صبر، وفي هذا إشارة لطلبة العلم الذين يستعجلون في نيل العلوم والمدارك والمعارف ويريدون أن يكونوا علماء في أسبوع أو في جلسة، لا.

العلم يحتاج إلى نفس طويل، وإلى ممارسة وصبر، وإلى جلوس في حلق الذكر، وإلى قراءة للكتب، وإلى المواصلة والبحث ثم في النهاية يأتيك العلم.

ومثل طلب العلم كمثل النحلة إذا دخلت البستان، فهل مباشرة تضع عسلاً؟ لا.

بل تذهب وتبحث عنه في الأوراق والشجر والأزهار إلى أن تأتي بشيء بسيط، ثم تذهب وتبني وهكذا حتى يصير عسلاً، وكذلك العلم: يأتي بالطلب وبالممارسة وبالصبر وبالاحتكاك، وبإيجاد الحس العلمي عندك، أي: يكون عندك حس مرهف للعلم، وشغف، ورغبة، ولا تريد أن تجلس أي وقت إلا للعلم، فإذا دخلت بيتك، لابد من كتاب، وإذا خرجت لتتمشى لابد من كتاب، وإذا جلست لابد أن تفتح إذاعة القرآن؛ لأنك تريد علماً، ولا يمكن أن تضيع دقيقة من دقائق وقتك، فعندما يكون عندك حس علمي فسوف تصبح عالماً بهذا الموضوع، أما أن يكون العلم على هامش حياتك إن جاء وإلا تقضي أوقاتك أكثرها في سهر وكلام فارغ ولعب، ثم تريد أن تصبح عالماً! العلم لا يأتي إلا مع التعب.

فهذا موسى عليه السلام يقول له الخضر عليه السلام: {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:٦٧] فقال له موسى: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} [الكهف:٦٩] إن شاء الله أكون جاداً؛ لأنه بعد مشوار طويل وبعد سفر من طور سيناء إلى المغرب، قال: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} [الكهف:٦٩] فقال له الخضر: بشرط: {فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} [الكهف:٧٠] لا تسألني! وبعض طلبة العلم بمجرد أن يحضر المحاضرة يقدم السؤال! اصبر حتى تنتهي المحاضرة، فربما يأتي جوابك على لسان المحاضر أثناء الكلام، فأنت لا تستعجل.

فمشى معه على هذا الشرط.

ومروا وهم يريدون البحر، فاستأجروا سفينة وركبوا، وبينما هم جالسين، قام الخضر وأخرج مسماراً من حقيبته ومطرقة وخرق السفينة، وبدأ الماء يدخل، فاستغرب موسى، وهذا العمل لا يُسكت عليه؛ لأن هذا عمل تخريبي، قال له: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} [الكهف:٧١] فذكره: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:٧٥] ألم أخبرك من قبل أنك لن تستطيع أن تصبر: {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً} [الكهف:٧٣ - ٧٤] ثم مروا بقرية عندما نزلوا من السفينة وإذا بأطفال يلعبون في الساحة، فعمد الخضر إلى واحد من الأطفال وأمسكه من رقبته ونزع رأسه من رقبته -قطع رأسه- فما صبر موسى على هذا العمل، فموسى نبي ومصلح، وهذا قتل، ولهذا قال له: {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} [الكهف:٧٤] زكية: يعني معصومة صغيرة لم تفعل شيئاً، ففي الأولى: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} [الكهف:٧١] (إمرا) يعني: يبعث على المرية وعلى التفكر، كيف تخرق السفينة؟ لكن هنا لا توجد مرية، فهنا قتل واضح، فقال له الخضر: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:٧٥] وقال في الأولى: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:٧٢] لكن هنا أظهر الضمير {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:٧٥] ألم أقل (لك) أي: من أول طلبك لصحبتي؟ فقال له موسى: {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي} [الكهف:٧٦] يقول: هذه آخر مرة: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً} [الكهف:٧٦].

{فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} [الكهف:٧٧] كانوا بخلاء؛ لم يضيفوا حتى هؤلاء الغرباء، فرجعوا جائعين متعبين مسافرين، ليس عندهم أكل، فرأى الخضر جداراً آيلاً للسقوط، فقام الخضر وشمر عن ساعده وهدم الجدار وبدأ يعيده من جديد، فاستغرب موسى! أناس لا يضيفونا ونبني لهم الجدار بغير مقابل: {قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} [الكهف:٧٧] أي: قاول عليه مقاولة وخذ عليه أجراً، لكي نأكل ونشرب، أما أن يطردونا ونحن نبني جدرانهم بدون مقابل فهذا شيء لا يقبله العقل، فقال له الخضر: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف:٧٨] يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله أخي موسى لو صبر لأرانا من عجائب علم الله ما لا نتصور) ثم قال لموسى؛ لأنه مستعجل: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً * أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف:٧٨ - ٧٩] وظاهر الأمر أن خرق السفينة يؤدي إلى إغراقها، لكن حقيقة الأمر أن خرق السفينة يؤدي إلى النجاة بها؛ لأن هذا الملك الظالم الذي كان يأخذ السفن عندما جاء يريد أن يأخذها وجد الماء يدخلها، وأهلها ينزفون الماء، قال: دعها.

هذه لا تصلح، فهو خرقها لينجو بها لا ليغرقها، فالأمر ليس على ظاهره، فظاهر الأمر تدمير وإفساد، ولكنه في حقيقته نجاة هذا الأول.

{وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} [الكهف:٨٠ - ٨١] كان بعلم الله أن هذا الولد الذي يعتبر زهرة من زهرات الحياة لوالديه وفلذة كبدهما، يعلم