للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مقتضى رحمة الله لعباده]

هذه -أيها الإخوة- تقتضي مِنَّا أن نكون مؤدبين مع الله؛ فعندما نعلم أنه واسع الرحمة يجب أن نكون كثيري الطاعة، لا المعصية معتمدين على سعة الرحمة، كما يقول الحسن البصري: [إن قوماً غرَّهم حسن الظن بالله حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، يقولون: نحسن الظن بالله، كذبوا والله، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل].

مثال: ولله المثل الأعلى؛ إذا وُجد مدير إدارة، ذو خلق كريم، وشهم يقدر الرجال، يؤدي العمل ويحترمه، ويحترم الأفراد العاملين معه، ويراعي ظروفهم، ويحقق مصالحهم، ويهيئ لهم كل فرص تحسين الوضع، وإذا وقع لأحد العاملين ظرفاً ساعده وفزع له ويعطيه إجازة، وإذا حصل عليه شيء يجمع له، المهم رجل شهم بمعنى الكلمة، كيف يتعامل الناس مع هذا المدير؟! على رجلين: الأول: موظف شهم فاضل؛ فيتعامل معه من هذا المنطلق، فتجده من أحسن الناس أداء، ودواماً، وإتقاناً؛ لماذا؟ لأنه يحترم المدير، يقول: هذا المدير رجل فاضل، نستحي والله أن نتأخر، أو أن نؤخر العمل عندنا، أو أننا نغلط معه، هذا رجلٌ أَكْرَمَنا وغطَّانا بفضله، كيف نتعامل معه؟! هذا هو منطق الأخلاق؛ أن تتعامل مع المدير بمثل ما يتعامل معك به.

الثاني: موظف سافل لا خير فيه، ولا خُلُق، استغلَّ طيبة المدير وخلقه وكرامته وشهامته؛ فضيَّع العمل ما رأيكم في هذا الإنسان؟! بماذا سيتعامل معه المدير؟! هل بنفس الأسلوب أم يغيره له، ويقلب له ظهر المجن، تجد المدير هذا الذي هو أحسن واحد، يصير أشرس واحد، لماذا؟ يقول: هذا لا يستحق التعامل الحسن.

ولله المثل الأعلى! إن سعة رحمة الله يجب أن لا تطمعنا في معصيته، وتجرِّئنا على مخالفة أمره، وهذا مذهب المرجئة، يقول فيهم زيد بن علي: " إني أبرأ إلى الله من المرجئة؛ فإنهم أطمع الفسَّاق في رحمة الله، وأجرؤهم على معصية الله.

" ولكن هناك توازن في التعامل مع الله، فتطمع في رحمته وتشفق من عقوبته، فتحملك معرفتك برحمته على الرجاء، وتحملك معرفتك بعقوبته وشدة بأسه على الخوف، فتعيش متوازناً بين الخوف والرجاء، هذه هي مسألة المؤمن؛ فالمؤمن يعيش بين الخوف والرجاء إلى أن يموت، وفي ساعات الموت ماذا يفعل؟ يدع الخوف ويُغَلِّب الرجاء، لماذا؟ لأنه لم يعد هناك مجال للعمل؛ أي: لم يعد معك إلا ما تحسن به الظن، ويضرب العلماء في هذا مثالاً: الطالب وهو يذاكر أثناء العام الدراسي يعمل بين الخوف والرجاء، الخوف من نتائج الامتحان والأسئلة التي سوف يضعها الأستاذ، والرجاء لأنه والحمد لله مذاكر وذكي وفاهم للمادة، وأيضاً الأستاذ يعرف كيف يصحح الأسئلة والإجابات الصحيحة، هذا خوف ورجاء؛ لكن إذا دخل الصالة، ماذا يُغَلِّب؟! ووقع الورقة وكتبها وخرج إلى الخارج وقرأ الأسئلة وقارنها لم يعد عنده خوف، بل يصير عنده رجاء؛ رجاء في عطف الأستاذ ورحمته، ورجاء في اللجنة التي يسمونها لجنة الشفقة -لجنة الرحمة- التي تنظر في الأوراق إذا بقيت نصف علامة أو علامة ونصف فتضيفها.

وأنت كذلك يجب عليك في هذه الحياة أن تعيش متوازناً بين الرجاء والخوف؛ ولكن تغلِّب في الدنيا جانب الخوف لكي تنحجز عن المعاصي وتمشي في الطاعات، فإذا كنت مودعاً للدنيا إلى الآخرة تغلب جانب الرجاء، يقول عليه الصلاة والسلام: (لا يموت أحدكم إلا وهو يُحسن الظن بالله)، وإحسان الظن كما يقول ابن القيم: يقتضي إحسان العمل، فمن أحسن الظن بالله أحسن العمل في التعامل مع الله عزَّ وجلَّ.