يقول: فلما صليتُ صلاة الفجر صُبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينما أنا جالس أذكر الله في الحالة التي ذكر الله في القرآن، قد ضاقت عليَّ نفسي، وضاقت عليَّ الأرض بما رحُبت، سمعتُ صوت صارخ يأتي من جهة جبل سَلْع، بأعلى صوته: يا كعب بن مالك! أبشِرْ -يُسْمِعُهُ في آخر الليل، أحد الصحابة يصيح ويبشره- قال: فخررتُ ساجداً، وعرفتُ أنه قد جاء الفرج، وآذَنَ رسولُ الله بتوبة الله علينا، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قِبَل صاحبيَّ مبشرون، وجاء إليَّ رجلٌ وهو راكب على فرسه، وسعى ساعٍ من أسلم، فأوفى على الجبل، وكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعتُ صوته يبشرني بتوبة الله عليَّ نزعتُ له ثوبيَّ، فكسوتُه إياهما ببُشراه، ووالله ما أملك غيرهما يومئذٍ.
وهذا فيه جواز تبشير البشير، فإذا جاءك شخص يبشرك بمولود، أو يبشرك برُتبة، أو يبشرك بأي أمر تفرح به، ففيه جواز أن تعطيه بشارة؛ لأن هذا مما يوحد ويؤلف القلوب.
قال:(فانطلقتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلقاني الناس فوجاً فوجاً، يهنئونني بالتوبة من الله، يقولون: لِتَهْنَكَ توبة الله عليك يا كعب! قال كعب: حتى دخلتُ المسجد، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس، فقام إليَّ طلحة بن عبيد الله.
-وهذا أيضاً مما ينبغي أن يكون عليه خلق المسلم يقول: فقام إليَّ طلحة بن عبيد الله - يهرول، حتى صافحني وهنَّأني، والله ما قام إليَّ رجل غيره، ولا أنساها لـ طلحة أبداً، قال كعب: فلما سلَّمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجُهه يبْرُق من السرور؛ لأن الرسول كان إذا أُعجِب وسُرَّ بشيء يُرَى ذلك في وجهه صلوات الله وسلامه عليه، يقول: فقال لي: أبشر يا كعب! بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمُّك، فقلتُ: أمِنْ عندك يا رسول الله، أم من الله؟ قال: بل من عند الله عز وجل، وكان إذا سُرَّ استنار وجهُه حتى كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك من وجهه صلوات الله وسلامه عليه، فلما جلستُ بين يديه قلتُ: يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: بل أمْسك عليك بعض مالك، فهو خير لك -أي: تصدَّق بشيء منه فقط، وأمسك على الباقي- قلت: فإني أُمْسك سهمي الذي بـ خيبر، فقلتُ: يا رسول الله! إن الله إنما نجَّاني بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدِّث إلا صدقاً ما بقيت، قال كعب: فوالله ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله بصدق الحديث منذ ذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مِمَّا أبلاني، ما تعمَّدتُ منذ ذكرتُ ذلك إلى يومي هذا كذباً، وإني لأرجو أن يحفظني الله عز وجل فيما بقي).
وأنزل الله عز وجل على رسوله توبة الثلاثة في قوله:{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[التوبة:١١٧ - ١١٨]، ثم أنزل الله عز وجل في الذين كذَبوا واعتذروا بالأعذار الكاذبة، فقال:{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}[التوبة:٩٥ - ٩٦]، ثم نزل قول الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}[التوبة:١١٩].
هذه هي القصة، كما أوردها الإمام البخاري في صحيحه، ونستخرج منها العبر والعظات، ونقتدي به رضي الله عنه، ونتحمل آثار الصدق؛ فإنها مهما بلغت لن تصل إلى آثار الكذب التي فيها العذاب والدمار في الدنيا وفي الآخرة.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعلني وإياكم من الصادقين، وأن يحمينا وإياكم من الكذب، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، والله أعلم.
أذكر لكم الآن بعض الإجابات المختصرة على بعض الأسئلة.