للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نعمة المال]

إذا كانت نعمة المال تنفعك في الدنيا، فاشتغل بالمال بقدر ما ينفعك في الدنيا، والباقي حوله إلى الآخرة، كما قال الناصحون لقارون فإن قارون كان ثرياًً، بل كان من أثرى أهل الأرض، مفاتحه التي هي مفاتيح المخازن {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص:٧٦] أي: إن العصبة الرجال لا يستطيعون أن يحملوا مفاتيح المخازن، فلما خرج متبختراً متزيناً مفتخراً بهذا المال، قال له قومه: {لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:٧٦]، أي: لا تفرح بالدنيا إذا سيقت لك، بل احزن منها وخف، فإنها استدراج لك وابتلاء واختبار، والله زوى الدنيا عن أنبيائه ورسله إكراماً لهم، وبسطها على أعدائه والعصاة من عباده إضلالاً لهم، ولم يبسطها إلا لنبي واحد وهو: سليمان، فاعتبرها بلية وقال: {لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل:٤٠] فلم يعتبرها نعمة، وإنما اعتبرها مصيبة وابتلاء واختباراً، فقالوا له: {لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:٧٦].

ولكن إذا بُسطت عليك الدنيا وفتحت لك، فلا تردها إذا جاءت من الحلال، ولكن اعمل لها (تحويلة) إلى الآخرة: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} [القصص:٧٧] أي: بهذه الأموال {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:٧٧] فقال هذا المغرور التعس، الغبي الجهول: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص:٧٨] يقول: أنا صاحب عقلية تجارية، أنتهز الفرص وأغتنم المناسبات، وكلما أتيحت لي فرصة اغتنمتها، ولذا أُثريت وأصبحت صاحب مال، وما علم المسكين أن في هذه الدنيا من هو أشد قوة وأعظم عقلاً منه، ولكنه يعيش فقيراً.

يقول أهل العلم: كان هناك رجل فقير وكان عقيماً، لكنه عاقل ولبيب، وكان هذا الفقير مبتلىً بالفقر أي: ليس عنده شيء، لم يستطع أن يجمع عبر شهور مبلغاً من المال ليشتري به حذاءً، فنزل إلى السوق يمشي على قدمين حافيتين، ومعه درهمين في جيبه قد رصدهما لشراء الحذاء، وفي الطريق التقى برجل يسوق أمامه أربعين حماراً، وكانت الحمير هي وسائل النقل الشائعة، أي: هي السيارات المنتشرة في عهدهم، وكان ذلك الرجل خلف الأربعين حماراً يضربها ويطردها من هنا إلى هنا، فلحقه الفقير قائلاً: يا أخ العرب! لمن هذه الحمير؟ قال: لي.

قال: كلها لك.

قال: نعم.

كلها لي، فقال: هلا ركبت واحداً منها، لماذا تمشي وهي أمامك وكلها لك؟ قال الرجل: يا أخي! أنت لا تعلم ما هي المشكلة، قال: وما هي؟ قال: إذا ركبت عليها صارت تسعة وثلاثين حماراً، وإذا نزلت زادت وكانت أربعين حماراً.

فهذا المغفل لا يعرف أن يعد حميره؛ إذا ركب على حمار عد الذي أمامه ونسي الذي تحته، فإذا نزل صارت كلها أمامه فأصبحت أربعين حماراً، فقال: إذاً نمشي وتزيد حماراً ولا تنقص، فتعجب هذا الرجل الحكيم وقال: سبحان الله! هذا الرجل لا يعرف أن يعد حميره وعنده أربعين حماراً، وأنا عندي عقلية عظيمة وليس لدي أحذية ألبسها.

إذاً الرزق ليس بالعقلية، ولا بالفرص، وإنما بتقسيم الله، يقول الله عز وجل: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:٣٢] فالمال نعمة، ولكنه نعمة إذا استغل في طاعة الله.

ولكي يكون نعمة فإن هناك شروط: أولاً: أن يجمع من الحلال، ويُنفق في الحلال، وأن يخرج منه الحقوق والواجبات، وإلا تحول المال إلى لعنة في الدنيا قبل الآخرة، يقول الله عز وجل في سورة التوبة: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا} [التوبة:٥٥] أي: بالأموال والأولاد {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:٥٥].

ويذكر الإمام أحمد في مسنده حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (التقى مؤمنان على باب الجنة: مؤمن غني، ومؤمن فقير) أما لو كان الغني فاجراً، فإنه ليس له طريق إلى الجنة؛ لأن هناك (تحويلة) من الصراط على جهنم، لكن هذا مؤمن استطاع أن يعبر الطرق كلها وأن ينجو إلى أن وقف على باب الجنة بإيمانه، ولكن عنده مال، والآخر فقير وعنده إيمان، قال: (فأدخل الله المؤمن الفقير لتوه) هذا الفقير عنده إيمان ولكن ليس لديه متاع، عندما تسافر الآن من الرياض إلى جدة، وتأتي إلى الكونترول فتجد أن هناك لوحة مكتوب عليها: الركاب بغير عفش لا أحد يؤخرهم، يعطون البطاقة ويدخلون مباشرة، لكن إذا جئت عندهم ولديك عشرة كراتين وشنط، عندها يقولون لك: على جنب، قف هنا والتزم بالطابور افتح وزن ويتعبونك من أجل رحلة ساعة أو ساعتين.

حسناً! والذي لديه رحلة مدى الحياة إلى الآخرة، كيف ينجو؟ كيف يكون تعبه في الطريق؟ فالأموال مسئولية وعهدة على صاحبها.

قال: (وحبس المؤمن الغني ما شاء الله أن يحبس) أي: حبس للسؤال فقط، فليس هناك عذاب؛ لأنه ناجح، قال: (ثم أدخله الله الجنة، فالتقى به صاحبه الفقير المؤمن -التقى به في الجنة- فقال: يا أخي! لقد تأخرت عليّ حتى خشيت عليك) يقول هذا المؤمن الفقير: والله إني خفت عليك، فقد ظننت أنك ذهبت إلى النار، ما الذي أخرك؟ ما الذي حبسك عني؟ (قال: يا أخي! حبسني مالي، حبست محبساً سال مني من العرق ما لو أن ألف بعير أكلت من حمض النبات، ثم وردت عليه لصدرت عنه رواء) ألف بعير! هذا مقدار ما سال من العرق، البعير إذا أكل من حمض النبات لا يرويه برميل، فما بالك بألف برميل في سين وجيم! ليس هناك أذى ولا مطرقة، وإنما فقط سؤال عند الباب، فكم جلس هذا الغني؟ خمسمائة سنة، أي: نصف يوم بحساب اليوم الآخر: (يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل أغنيائهم، بخمسمائة عام) أي: بنصف يوم؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:٤٧].

إذاً نقول للناس: لا تردوا المال إذا كان من الحلال، ولكن استعينوا به على الحلال، أكرموا منه الضيف، صلوا به الأرحام، تفقدوا به الجيران، ابنوا به المساجد، أنفقوا منه في ميادين البر والإحسان، أمدوا بها المجاهدين المحتاجين إلى هذا المال، الذين يلتحفون السماء، ويفترشون الأرض، ويأكلون فتات العيش، ويجاهدون بنحورهم في سبيل الله، وأنتم لديكم أموال فأنفقوها في سبيل الله.

يقول تعالى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:٤١] ويقول: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} [القصص:٧٧] وبعد ذلك ليس هناك مانع من أن تبني لك عمارة أو تشتري لك سيارة، أو تتزوج لك بزوجة جميلة، أو أن تأثث لك بيتاً بأحسن الأثاث، أو أن تأكل من أحسن الطعام، أو تلبس من أحسن الثياب (فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده) (وإن الله جميل يحب الجمال) والله عز وجل يقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:٣٢] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:١٧٢].

إذاً: المال نعمة لكن بشرطه، وشرطه: أن يكون من الحلال، أما إذا كان من الحرام فالله لا يقبل منك به عمل؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، فإن لم يصرفه في الحلال، ويُخرج منه الحقوق والواجبات تحول هذا المال إلى نقمة.

أكثر الناس الآن أصحاب الأموال (المليونيرات) تجده مبسوطاً؛ لأنه إذا دخل مجلساً فبمجرد أن يدخل من هناك والمجلس كله ينتفض له، ويقولون: وعليك السلام! ولو ما قال السلام عليكم، لماذا؟ لأن المال والشيكات والمنزلة الاجتماعية سلمت، وإذا جاء إلى مكانه تجد الكل يقولون: هنا يا أبا عبد الله، هنا يا أبا محمد، لكن إذا دخل الفقير وقال: السلام عليكم بأعلى صوته ما قالوا وعليك السلام، وإذا كان هناك من يرد السلام لقال: وعليك السلام بينه وبين نفسه، ولا أحد يقول تعال هنا، لماذا؟ لأن المال له قيمة هنا، لكن في الآخرة تؤخذ هذه الأموال على جنب: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ:٣٧] {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:٨٨ - ٨٩].