والنفس يقول العلماء: إنها مستشار أول للقلب، فإذا أراد القلب أن يعمل شيئاً استشارها، فإذا كانت النفس أمارة بالسوء أشارت عليه بالسوء، والنفس في طبيعتها وأصلها أمارة بالسوء، كما قال الله:{إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}[يوسف:٥٣] ولهذا مقاييس هذه النفس هي: الشهوات، الملذات، المتع، الراحة، النوم، الفسحة، الرحلة، السهرة، اللعب، هذه كلها تحبها النفس، وهناك أشياء أخرى لا تحبها النفس: القيود، التكاليف، الصلاة، الزكاة، الصيام، قراءة القرآن لا تحبها النفس، مع أن الجهد المبذول في هذه الطاعات بسيط قياساً على الجهد المبذول في تلك الغفلات، لكن النفس هذه طبيعتها، لا تحب هذا، وانظروا الطالب أيام الامتحان يكره الكتاب، ويحب الجرائد بالرغم من أنه ليس عنده امتحان في الجريدة، بل عنده امتحان في الكتاب؛ لكن الكتاب كأنه حيات وعقارب لا يريد أن يراه، وإذا به إذا رأى مجلة أو جريدة قرأها وانبسط معها، لماذا؟ لأن النفس لا تحب القيود، تحب الدعة والانفلات.
فهذه النفس أيها الإخوة! يقول العلماء: إنها هي المجال الأول للإصلاح الإنساني، فالله يقول في كتابه الكريم:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}[الشمس:٧ - ٨] أي: كل نفسٍ لديها القدرة على أن تكون تقية أو فاجرة، ثم يأتي دورك أنت في تربية نفسك، قال عز وجل:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}[الشمس:٩ - ١٠] قالوا: تزكيتها بطاعتها الله وببعدها عن معصيته، وتدسيتها بوقوعها في معصية الله وحرمانها من طاعة الله عز وجل.
دورك أيها الإنسان! هو إصلاح هذه النفس، كيف الإصلاح؟ بالمجاهدة، قال عز وجل:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات:٤٠ - ٤١] جاهد النفس وعاندها، إن كانت تريد النوم عن صلاة الفجر فلا تدعها، أو كانت تريد الغفلة عن الذكر فلا تدعها، أو تريد الجريدة وتترك القرآن؛ لا.
بل لا تترك القرآن، وإذا كانت تريد أن تنظر إلى الحرام؛ لا.
وقل لها: والله لا تنظرين، أو كانت تريد أن تسمع الأغاني؛ فقل لها: لا لن تسمعي! الله أكبر! أنت ضد نفسك، جهاد في جهاد، فإذا رأت هذه النفس أنها مع إنسان قوي فستستسلم، وترتقي من درجة الأمارة بالسوء حتى تصبح -كما قال العلماء- نفساً لوامةً.
فما معنى اللوامة؟ هي المعبر عنها في علم النفس الحديث بـ (الضمير)، يقولون: رجل عنده ضمير حي، وآخر ضميره ميت، الذي ضميره ميت؛ هذا هو الذي نفسه أمارة بالسوء، يزني ويسكر ويعمل كل جريمة؛ لأن قلبه ميت لا يحس، أما الذي ضميره حي هذا فيه خير، وإذا عمل جريمة تلومه نفسه تقول: لماذا عملت؟ هذه اسمها لوامة، تأمره بالشر ثم تلومه عليه.
فيردها الإنسان ويؤدبها ويهذبها مرة أخرى، ويعاندها مرة أخرى إلى أن ترتقي إلى المرتبة النهائية؛ وهي: النفس المطمئنة.
والنفس المطمئنة: وهي التي سكنت إلى أمر الله، واطمأنت إلى طاعة الله، فلا تحب إلا الله، ولا تحب إلا رسول الله، ولا تحب إلا شريعة الله، ولا تحب إلا بيوت الله، إذا دعيت إلى طاعة الله فرحت، وإذا عرضت عليها معصية الله نفرت، هذه نفس مطمئنة، لماذا؟ رضيت عن الله، ورضي الله عنها، يقول الله لها يوم القيامة:{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً}[الفجر:٢٧ - ٢٨] راضية في ذاتها، مرضيٌ عنها من قبل خالقها وبارئها:{فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}[الفجر:٢٩ - ٣٠] هذه النفس هي الجزء الثالث وهذه مهمتها، يقول العلماء: إن النفس مثل الدابة، إما أن تركب عليها، وإلا ركبت عليك، فإن ركبت عليها وقصرتها على أمر الله سرت بها إلى الله، وإن ضعفت أمامها ركبت عليك نفسك، وأوردتك إلى النار والعياذ بالله.