للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[استعراض السنة لنتائج الأعمال]

نأتي إلى السنة، وهي الوحي الثاني، التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي) وقال: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي) وقال: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك: كتاب الله وسنتي) وقال: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) أي: السنة، فهذه السنة تأتي فيها فتجد الأحاديث فيها شاملة، وملفتة للنظر، فكل شيء مرتب على الإيمان والعمل الصالح، فأحياناً يكون العمل واحداً لكن القصد يختلف؛ فتختلف النتيجة.

في الصحيحين من حديث عمر رضي الله عنه، لما هاجر الصحابة إلى المدينة هاجر أناس لهم أغراض، فشخص هاجر من أجل أن يتزوج أم قيس، وشخص هاجر من أجل تجارة، قال: الناس ذهبوا وأنا سوف أذهب أبيع وأشتري معهم، وهم في الظاهر مهاجرون.

ولكنهم في الباطن مختلفين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) فهذا ذهب يريد أن يتزوج؛ فيقال له: تزوج، ولكن ليس لك شيء عند الله، وهذا ذهب يتاجر؛ فيقال له: تاجر، لكن ليس له شيء عند الله.

لكن هذا ترك ماله وخرج من بيته مهاجراً إلى الله، هذا له الشيء العظيم عند الله عز وجل.

وهكذا كل الأحاديث على هذا النحو.

وأذكر لكم حديثاً واحداً فيه عبر، وهو حديث في الصحيحين، قال عليه الصلاة والسلام وهو يحكي لنا خبر من كان قبلنا من الأمم، قال: (كان فيمن كان قبلكم من الأمم ثلاثة، خرجوا في سفر، فآواهم المبيت إلى جبل، فدخلوا في غار ليبيتوا، وحينما ناموا، انطبقت عليهم صخرة من الجبل فسدت عليهم باب الغار، فلا يستطيعون الخروج) ولا يوجد هاتف ولا دفاع مدني، ولا يوجد إلا صخرة لا يزحزحها إلا مئات الرجال، فما يفعل لها ثلاثة نفر؟ لا يقدرون على شيء، فكان أحدهم عاقلاً فقال: (إنه لا ينجيكم مما أنتم فيه إلا الله، فادعوا الله بصالح أعمالكم) الله أكبر! لو تقال هذه الكلمة لنا -أيها الإخوة- أو لو يحصل هذا لي أو لكم -ولا ننفي الخير عن العباد، ولكن هذا حال معظمنا- ماذا نقول لله عز وجل؟ وبإي شيء ندعو الله؟ لا إله إلا الله! فالأول وقف، وسأل الله، قائلاً: (اللهم إنه كان لي ابنة عم وكنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، وراودتها مراراً وكانت تمتنع عليَّ وآوتها الحاجة يوماً إلى الاقتراض مني، فقلت لها: لا أعطيك حتى تخلي بيني وبين نفسك، فأطاعته مضطرة لا مختارة، يقول: فلما قعدت منها مقعد الرجل من زوجته، قالت لي: يا هذا! اتق الله) الله أكبر! هذه الكلمة ما أعظمها في القلوب المؤمنة، هذه الكلمة تهز القلوب من الداخل، كان عمر إذا قيل له: اتق الله يمرض أسبوعاً، لكن من الناس من تقول له: اتق الله، فكأنك نفخته {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:٢٠٦] فهذا المنتفخ تكفيه جهنم، قالت له: (يا هذا! اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، قال: فقمت وتركتها) وطبيعي أن هذه القضية -أيها الإخوة- سهلة في الذهن، ولكن في التطبيق العملي لا يعملها إلا من كان عنده من الإيمان مثل الجبال الراسيات؛ لأنه في تلك اللحظات يضيع العقل، ويعمى البصر، وتطغىالشهوة على الإنسان، وينسى حتى النار، وينسى الله، ولا يستحضر أن الله يراه.

لكن هذا مؤمن، لما سمع كلمة اتق الله، غلبت عليه مخافة الله وطغت على شهوته، وألغى حبه، ورغبته في ممارسة الجريمة، قال: (اللهم إن كنت تعلم أني تركتها من أجلك فارفع عنا ما نحن فيه، فتحركت الصخرة) من الذي حركها؟ الله، وذلك بسبب العمل، لكنهم لا يستطيعون الخروج، فرأوا النور ولكن الفتحة صغيرة فلا يستطيع أحد أن يخرج.

فقام الثاني وقال: (اللهم إنه كان لي أبوين كبيرين في السن، وكنت لا أغبق قبلهما زوجة ولا ولداً -أي: ما أعطي لبناً ولا عشاء لأحد قبلهم- ورعيت يوماً إبلي فنأى بي المرعى بعيداً -يعني: ما وجدت مرعىً إلا في مكان بعيد- يقول: ثم عدت آخر الليل وقد ناما، فحلبت غبوقهما -أي: اللبن- وكرهت أن أوقظهما، وجلست واقفاً على قدمي والقدح في يدي، وحولي صبية يتضاغون من الجوع -أولاده يبكون من الجوع- فقلت: والله لا أغبقكم إلا بعدهما، حتى برق الفجر) لا إله إلا الله! طول يومه وهو على رجله يرعى؛ لأن الرعي ليس سهلاً، وأشق مهنة هي: مهنة الرعي، فلا يجلس لحظة إلا ويطرد ويحد ويعد، وحين رجع لم ينم، بل ظل واقفاً، ولو أيقظهما للعشاء لما أزعجهما، لكنه حساس، وله قلب عظيم، وعنده تقوى، وبر، فيقول: لا أيقظهما من النوم، ولا أعطي أولادي قبلهما، فترك امرأته وأولاده جياعاً إلى أن جاء الفجر- قال: (اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك من أجلك فارفع عنا ما نحن فيه، فتحركت الصخرة) أين أبناؤنا وبناتنا من هذا الحديث؟ أين هم؟ كيف يفرطون في باب وطريق موصل إلى الجنة عن طريق الوالدين، فإذا كان عندك أم أو أب أو الاثنين معاً فاسلك إلى الجنة عن طريق برهما؛ لأن البر من أعظم القربات، والعقوق من أكبر الكبائر.

ورد في الصحيحين من حديث أبي بكر رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، قلنا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين) فقرن الله عقوق الوالدين بالشرك، وقرن برهما بطاعته، فقال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:١٤] وقال عز وجل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [النساء:٣٦] وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:٢٣] فلا تضيع هذا الباب وتصرخ في أبيك أو أمك.

ويقول بعض الشباب: أبي سيئ، أو ليس جيداً.

عجيب! إذن تذهب إلى أي معرض ونبدل أباك ونعطيك واحداً وفق هواك.

ليس معك إلا أبوك، وليس لك طريق إلى الجنة إلا عن طريقه، حتى ولو كان كافراً! ولو كان كافراً أما أمر الله بطاعة الأب وإن كان كافراً؟ قال الله عز وجل: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان:١٥] أي: بالشرك، ثم قال: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:١٥] فإذا كان لك أب مشرك أو كافر وأمرك بالكفر فلا تطعه، ولكن صاحبه بالمعروف، وأنفق عليه، واعمل له كل شيء، لماذا؟ لأنه سبب وجودك في هذه الحياة.

وبعد ذلك فالجزاء لك من جنس عملك مع أبيك، فكما تكيل لأبيك يكيل لك ولدك ويزيد، وفي الحديث: (بروا آباءكم تبركم أبناؤكم) وكما تدين تدان.

(فقام الثالث وقال: اللهم إنه كان لي أجراء -أي: عمال عملوا عندي بأجر- فأعطيت كل واحد أجره، إلا واحداً ترك أجره وذهب، فنميته، حتى صار وادياً من الإبل ووادياً من البقر ووادياً من الغنم، ثم جاءني بعد زمن, فقال: إني كنت قد عملت عندك قبل سنوات، وتركت أجري عندك، وأنا الآن بحاجة إليه؛ فأعطني أجرتي، فقلت له: إن ما ترى من هذه الأودية المملوءة بالمواشي والأنعام هي لك، قال: أتهزأ بي، قال: لا والله لا أهزأ بك ولكنها لك، فقد نميت لك أجرتك، وبارك الله فيها، قال: فاقتداها واستاقها فلم يترك منها شعرة واحدة.

اللهم إن كنت تعلم أنني صنعت ذلك خوفاً منك فافرج عنا ما نحن فيه، فتحركت الصخرة، وخرجوا يمشون).

ونقول لأصحاب المؤسسات، والشركات، والأعمال الذين يستأجرون ويستعملون العمال، ويعطلون حقوقهم، ويؤخرون أجورهم، ففي بعض المؤسسات تمر الأشهر ولا تدفع أجور العمال، لماذا؟ حتى يتركها في البنك فتزيد، ثم يدفع لهم فيما بعد من أرباحها الربوية، وإذا اشتكى العامل في مكتب العمل؛ يأتي به صاحب العمل ويقول: هذا خروج نهائي بدون عودة؛ لأنك مشاغب، فسترى ما سنفعل بك.

أقول: أنت ستريه لكن الله سيريك ما سيفعل بك.

إذا استطعت على الناس فاعلم أن الله يستطيع عليك، فهذا العامل مسكين، له زوجة، وأولاد، وطموحات، وآمال، ويريد أرضية في بلده، ويريد أن يبني له بيتاً، وعنده مثلما عندك، لماذا تستغله وتمتهنه وتحتقره وتمارس عليه ضغطاً؟ وتؤخر أجره؟ لماذا تلزمه نهاية كل شهر أو عندما تجدد إقامته تأخذ منه خمسة أو ثلاثة آلاف؟ بأي حق؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه) فما هذه الممارسات؟ وما تجارة الرقيق هذه؟ لماذا تتاجر في أحرار؟ ألأن الله جعل يدك العليا؟ ألأن الله جعلك صاحب المؤسسة؟ كان بالإمكان أن تكون أنت عاملاً عنده في بلده، وكان بالإمكان أن تكون أنت الفقير وهو الغني، لكن الله فضلك، أفيليق بك وقد فضلك الله أن تعامل الله بهذا الأسلوب، في امتهان عباد الله واحتقارهم؟ إنه لا يجوز ذلك لك، يقول الله: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) فالظلم ظلمات يوم القيامة، والله يقتص يوم القيامة للشاة الجلحاء من ذات القرن، والحديث في الصحيحين، فإن الله يخلق الشاة ومعها قرن، ويخلق الشاة الأخرى وليس معها قرون، فتأتي ذات القرن وتنطح الأخرى والقرن ليس منها، فمن أعطاها القرن؟ هل هي اشترته من السوق؟ فهذا القرن من الله، تأتي التي ليس عندها قرن وتنطحها في بطنها.

فهذه النطحة عند الله، ويوم القيامة يقتص لها، والحديث كما يقول العلماء: إن فيه إشارة إلى أن من الناس من يستعمل قرنه مثل الشاة، فهو ليس معه قرن ولكن معه مال، فيستعمل المال لينطح به من ليس عندهم مال.

وهو إنسان لكن معه منصب، فق