للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[جارحة اللسان الخطيرة]

ثم انتَقِل إلى الباب الثاني والجارحة الأولى والخطيرة وهي: جارحة اللسان: فإنها من أخطر الجوارح على دين الإسلام، فاللسان قنبلة تدمر دين العبد؛ يصلي، ويصوم، ويعمل ويعمل، ثم يقول كلمة تنسف عمله كله، وتعرفون الحديث الذي في صحيح مسلم؛ حديث الرجل الذي كان صالحاً وكان له أخ عاصٍ، وكان ينصحه باستمرار، ولا يستجيب له، فأتى إليه يوماً وهو على المعصية فقال له: (والله لا يغفر الله لك) الله أكبر! ما هذه الكلمة! رغم أن بواعثها ودوافعها حسنة؛ والغضب كان لله؛ لكن تجاوز الحد، فقال الله له: (من هذا الذي يتألَّى عليَّ؟! قد غفرتُ له وأحبطتُ عملك) كلمة واحدة أوبَقَت دنياه وآخرته: (رُبَّ كلمة قالت لصاحبها: دَعْني).

والحديث الآخر في الصحيح: (أتدرون من المفلس؟! قالوا: المفلس من لا درهم ولا دينار لديه، قال: لا.

المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات، وصلاة، وصيام، مثل الجبال، ثم يأتي وقد شتم هذا، ولعن هذا، وأكل مال هذا، وسب هذا، وهتك عرض هذا، فيؤتى لهذا من حسناته، وهذا من حسناته، وهذا من حسناته -تقسم أعماله على العباد- فإذا فنيت حسناته أُخِذ من سيئاتهم، ثم طُرِحَت عليه، ثم طرح في النار).

من الذي ضيعه وأحبط عمله؟! إنه لسانه.

والحديث في سنن أبي داوُد، ومسند أحمد، من حديث معاذ رضي الله عنه، وهو صحيح، قال عليه الصلاة والسلام وهو يوصي معاذاً بما يدخله الجنة، وينجيه من النار، قال له في نهاية الأمر: (أفلا أدلك على ملاك ذلك كله؟ َ -يعني: السور الذي يحمي لك دينك كله- قال: قلت: بلى يا رسول الله، قال: كف عليك هذا -أمسِك لسانك- قال: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به يا رسول الله؟! قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يَكُبُّ الناس على وجوههم أو قال: على مناخرهم إلا حصائدُ ألسنتهم؟!).

والحديث الآخر: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب) بكلمة واحدة.

والذين كانوا في غزوة تبوك قالوا كلمة واحدة فكفروا بها، وليتهم ما تكلموا؛ لكنها مضت ولم تصحح أبداً، قالوا: (ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء -يعني: الرسولَ وأصحابَه- أوسع بطوناً، وأجبن عند اللقاء!) يريدون أن يضحكوا ويقطعوا الطريق وهم سائرون، وإذا بالقرآن ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:٦٥] {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:٦٦] لا إله إلا الله! كفر بكلمة؟! نعم.

يقول راوي الحديث: (كأني بالرجل هذا وهو متعلق بنسعة ناقة رسول الله، والحجارة تنكب رجليه، وهو يقول: يا رسول الله، والله ما أعنيها! يا رسول الله، إنما هي حديث الركب! يا رسول الله، أندخل النار وأنت بين أظهُرنا؟! يا رسول الله: ((إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ)) [التوبة:٦٥] والرسول يقول له: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:٦٥ - ٦٦]) كلمة واحدة ضيعته وأفقدته دينه كله، وخسر الدنيا والآخرة.

فلسانك حصانك، لماذا سمي اللسان حصاناً؟ لأن للحصان عناناً، والحصان الذي ليس له عنان تراه يشرد ويهرب ولا يستطيع أحد أن يمسكه؛ لكن عندما يوضع له العنان وهي: حديدة تُدْخَل تحت لسانه، ثم يمسكها الفارس من فوقه، عندها تستطيع أن تمسك به، ولسانك حصانك إن صنته صانك وإن أهنته أهانك.

وعنانك -أيها المسلم- إيمانك، يزمَّ لسانك، فلا تستطيع أن تتكلم مع الناس في الباطل، فإنك إذا سمعت الناس يخوضون في الباطل سكت، لماذا؟! لأنه: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) فلا يتكلم الإنسان إلا بحق أو يسكت، فالمؤمن صمام ثابتٌ وصندوقٌ تجاري مقفل، لا أحد يدري ما وراءه، وإذا تكلم تكلم بعقل، وأما ذاك المنافق فهو غبي ملجلج، يتكلم بباطل وحق، وغيبة ونميمة، وشتم وقيل وقال وقلنا وسمعتم ما هذا الكلام؟! (كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع) لا ندري كيف تشيع الإشاعات بين الناس؟! عندما جئت إلى الرياض سمعتُ أخباراً كثيرة عن الإخوان الدعاة في أبها، قال شخصٌ: هل صحيحٌ أنك مسجون؟! وقال ثانٍ: هل صحيح أن الشيخ الفلاني مسجون؟! قلت: من الذي يروِّج هذا؟! قالوا: يقولون.

قلت: الله أكبر! ما هذه الوكالة؟ هذه وكالة إبليس، وكالة أنباء (يقولون)، لا يروج لها إلا الأبالسة الذين قد ورد فيهم عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه: (نهى عن القيل، والقال) قيل، وقال، ويقولون، هذه قَلْقَلَةٌ! - مَن قال؟! - لا أدري، سمعتهم والله يقولون.

- ليس لك عَمَل إلا النقل كلما سمعت شيئاً ذهبت لتقوله؟! إذا سمعت كلاماً فقل: اسمعوا يا جماعة الخير! إن كان عندكم خبر أكيد فأتوا به، فإذا قيل لك: والله يقولونه، فقل لهم: استحوا على أنفسكم: (كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع).

هذه الأراجيف، وهذه الإشاعات، وهذه الخزعبلات، لا تروج إلا في المجتمعات المريضة، ونحن في مجتمع سليم والحمد لله، مجتمع نظيف، فمجتمعنا وديننا يأمرنا أن نكون عقلاء، لا نحدِّث إلا بالحقائق، ولا نروج الإشاعات والأباطيل والخزعبلات بيننا.

فحاسب لسانك، ولا تتكلم بكلمة إلا وأنت تعرف أن لك عند الله بها ثواباً، وإلا (إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب) والذهب أفضل من الفضة، لكن بعض الناس لا يريد ذهباً، ويا ليته يتكلم فضة، بل يتكلم -والعياذ بالله- تراباً وعذاباً؛ يتكلم بغيبة، وبنميمة، وبلعن، وبسب، وبكذب، ويتكلم -والعياذ بالله- بشهادة الزور، ويحلف بالله فجوراً، ولسانه يشتغل (٢٤) ساعة يهلكه، ويدمِّر دينه، وينسف إيمانه، والعياذ بالله!