للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حال المؤمن عند فتنة القبر]

ذكرت الأحاديث الصحيحة كيفيتها: وهو أن الميت إذا وضع في قبره جاءته الملائكة على صورة منكرة، في سنن الترمذي قال: (إذا قبر الميت جاءه ملكان أسودان أزرقان) يقول المحققون: كيف يكون أسود وأزرق؟ هذه من الأشياء المتضادة، الأسود لا يكون أزرق، والأزرق لا يكون أسود، قالوا: أسودان في خلقتهما ووجوههما، وأزرقان في عيونهما، زرقة العين في بياض الوجه جمال، لكن زرقة العين مع سواد الوجه فيها تخويف، ولذا (أزرقان أسودان، يقال لأحدهما منكر والآخر نكير، فيقولان للإنسان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ -يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم- فيقول إذا كان مؤمناً: هو عبد الله ورسوله) أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، اللهم ثبتنا يا رب بالقول الثابت في الدنيا والآخرة.

وإن كان منافقاً لا يعرف الرسول؛ لأن المنافق يعرف الرسول معرفة سطحية، والذي يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم معرفة سطحية لا تبقى، والذي يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم معرفة عملية باتباع هديه، والعض على سنته، والتمسك بطريقته، هذا هو الذي يلهمه الله حجته، أما الذي يعرف الرسول وهو ضد سننه، لا يقيم لله أمراً، ولا لرسول الله سنة ولا وزناً، هذا لا يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم.

قال: (وإن كان منافقاً أو فاجراً قال: سمعت الناس يقولون قولاً فقلته، لا أدري) هذا رواه الترمذي في كتاب الجنائز وقال: حديث حسن، وقد رمز له الشيخ محمد الألباني في كتابه وتصحيحه للجامع، قال: بأنه حسن.

وأيضاً جاء في الحديث الذي يرويه البراء بن عازب رضي الله عنه؛ والبراء صحابي جليل، من كبار الفقهاء والمحدثين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى أكثر من ثلاثمائة وستة أحاديث، وكان قد شهد الغزوات كلها إلا بدراً فإنه اسْتُصْغِر، أي: ما أذن له؛ لأنه كان صغيراً، ففي معركة بدر خرج حتى الصبيان، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم يراهم، رأى أنهم أولاد أعمارهم أربع عشرة أو ثلاث عشرة سنة فردهم، فكان البراء وابن عمر وسمرة بن جندب ممن كانوا عند الرسول يرى رءوسهم، كان الواحد يقف على أطراف أصابعه ويتطاول؛ من أجل أن يأذن له الرسول في الخروج لا ليذهب إلى الملاهي والألعاب، بل يتطاول من أجل أن يذهب لكي تضرب رقبته بالسيف، أو يموت، لأنه يريد الجنة، فاستصغره النبي صلى الله عليه وسلم ورده يوم بدر، رضي الله عنه وأرضاه.

هذا البراء بن عازب له حديث عظيم، حديث رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه، وهو صحيح قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار)، والحديث طويل جداً نأخذ منه الشاهد وهو: (فيأتيه ملكان شديدا الانتهار) والانتهار: هو شدة القول، وهو دائماً شأن كل محقق، فأي شخص يحقق في قضية مع أي متهم لا يقدم له السؤال بالصيغة الطيبة، فيقول له: يا (أفندي)! يا (طويل العمر)! يا (سعادة الأستاذ)! نريد أن تقدم رأيك في هذا الموضوع، هل يقول له ذلك؟ لا.

بل ينتهره، لماذا؟ لأنه متهم بقضية حتى تثبت براءته أو إدانته، ولذلك المحققون في القبر ينتهرون المحَقَّق معه: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ انتهار شديد، وليس انتهار ضابط، ولا عسكري، ولا مفتش مثلك، بل انتهار مَلَكٍ شديد قوي أسود أزرق، صوته قوي، وأنت عارٍ، ضعيف، فقير، ليس معك مال، ولا سلطان، ما معك أحد في تلك الحفرة، وفي قبر ضيق، وظلمة، وهذا أمامك.

لا إله إلا الله ما أعظم القبر أيها الإخوة!! قال: (فيجلسانه ويقولان له: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟) وهي آخر فتنة، تعرض على المؤمن، وآخر شيء يوجه للمؤمن هذه الفتنة، فتنة المؤمن عند حشرجة الموت وعند ضغطة القبر؛ لأن الملائكة لا يعلمون الغيب حتى يعاملونه معاملة حسنة، فهم يسألونك كأي شخص من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ فإذا قلت: ربي الله، ديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، كشفت عن هويتك، بينت أسلوبك، أخرجت شهادتك، بعد ذلك لا فتنة عليك إلى يوم القيامة، فقط يقولون لك: (على هذا عشت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله، وينادي منادٍ من السماء: صدق عبدي، فافرشوا له من الجنة، وافتحوا له إلى الجنة).

فذلك حين يقول الله عز وجل: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:٢٧] قال: (فإن كان مؤمناً قال: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، فينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي).