[الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو قومه]
كان صلى الله عليه وسلم يقوم الليل، بعد أن نزل قول الله عز وجل: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:٢] الله أكبر! ما هذا الضمان؟ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [الفتح:١] وفي الأخير قال: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [الفتح:٢] كان وقوف النبي صلى الله عليه وسلم في الليل، ليس وقوفاً كوقوفنا اليوم، القائم منا إذا وقف عشر دقائق أو ربع ساعة قال: أنا أقوم الليل، وهذا كثر الله خيره، على الأقل تشبه بالصالحين، وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان قال: (صففت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالليل فقرأ بالبقرة فقلت: يركع في المائة الأولى، يقول: فلم يركع، فقلت: يركع بالمائة الثانية فلم يركع، فقلت: يركع في آخر السورة، -انظروا البقرة ننتهي منها في مسجدنا في التراويح في الليلة السابعة ويعتبروننا مطولين، وهو في ركعة واحدة انتهى من البقرة- فقلت: يركع في آخر السورة فلم يركع، ثم افتتح بالنساء، فقلت: يركع في المائة الأولى فلم يركع، فقلت: يركع في نهايتها فلم يركع، ثم افتتح بآل عمران، فقلت: لعله يركع، يقول: فلم يركع إلا في نهاية سورة آل عمران) هذه أكثر من خمسة أو ستة أجزاء.
هذا الوقوف الطويل ماذا يفعل بقدم النبي صلى الله عليه وسلم؟ تتفطر، لأنه ثقل عليها، جسم وطول قيام حتى تشققت، ونحن اليوم تشققت أرجلنا من أمر آخر، الذين تشققت أقدامهم في المزارع والمعامل واللعب؛ لكن نحن لا.
أقدامنا مثل قوالب الصابون.
لقد استغربت عائشة هذا الوضع وقالت: (يا رسول الله! أليس قد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ -عندك شهادة وضمانة أنك من أهل الجنة؛ لأن الله غفر لك ذنبك كله، فبماذا تنفعك الصلاة؟ - قال: أفلا أكون عبداً شكوراً) أي: إذا غفر لي ربي هل يعني هذا أن أترك؟ لا؛ بل أزيد شكراً لله على مغفرته لي فصلوات الله وسلامه عليه.
وفي ليلةً من الليالي وبعد أن قطع الرسول صلى الله عليه وسلم الطريق من مكة إلى الطائف هارباً بدينه، ينشر دين الله ويريد أن يبلغه في الأرض، وصل إلى سوق عكاظ، وسوق عكاظ سوق كان الناس يجتمعون فيه، وكان مهرجاناً يتبادل فيه الشعراء قصائدَهم، وتقام فيه المدائح والأخبار، فاستغله النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا شأن الداعية أن يستغل مكان التجمع، ولا يقول: والله هؤلاء ليس فيهم خير، كما نسمع بعض الناس اليوم، إذا قلت له: تعال اجلس مع الشباب وألق عليهم موعظة، واجلس معهم، قال: لا يا شيخ! دعنا منهم، هؤلاء ليس فيهم خير.
سبحان الله! من هم هؤلاء الذين في النادي؟ إنهم أبناء المسلمين، يا أخي! فيهم خير، استغل وجودهم وتجمعهم وازرع فيهم الخير، لكن تجعل بينك وبينهم هوةً وحاجزاً وتتركهم ولا تدعوهم، هذا ليس من أسلوب الدعوة، ولا من شأن الأنبياء، فكان صلى الله عليه وسلم يستغل كل تجمعٍ لنشر دعوة الله، وإبلاغ دينه، فجاء إلى سوق عكاظ وصعد على حجر وقام وقال: (يا أيها الناس! فاجتمع الناس حوله فقال لهم: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) والناس يعرفون أنه صادق ولا يكذب، وهو لا يكذب على الناس فضلاً عن أن يكذب على ربه، وكيف يكذب وهم يلقبونه بالصادق الأمين.
ولكن اللعين أبا لهب عليه لعائن الله المتتابعة تبعه من مكة يطارده، ويوم رآه على الحجر واقفاً، قام بجانبه، وقال: من هذا الذي تكلم؟ قالوا: ابن أخيك، قال: لو كان صادقاً لصدقته، إنه كذاب.
قالوا: عمه أعرف الناس به، فمادام عمه مكذبه فنحن كذلك مكذبوه، فكذبوه كلهم وطردوه، بل أغروا به السفهاء، وأمروهم برجمه بالحجارة؛ حتى سال الدم من عقبه الشريف صلوات الله وسلامه عليه، وخرج من الطائف، وجلس عند حائط ببستان من البساتين، ونادى بدعاء قال فيه: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس) (ضعف قوتي) ليس له قوة، (وقلة حيلتي) لم يعد عندي شيء، فماذا أعمل؟ طرقت كل باب، وسلكت كل وسيلة، وجئت إلى كل مجتمع، وتكلمت بكل بيان، ولم يعد عندي شيء يا رب؟! لكن لم يبق إلا أن أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي، وأيضاً- ليس لي وضع اجتماعي يحميني، لدرجة أن الذي يرجمني الأطفال وليس الكبار فقط: (إلى من تكلني، أنت رب المستضعفين، إلى قويٍ ملكته أمري، أم إلى بعيدٍ يتجهمني، إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصلح به أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي سخطك، أو يحل بي عقابك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك).
فيقول صلى الله عليه وسلم إن كان ما يأتيني من التكذيب والإهانة ناتجاً عن شيء غير غضبك فلا أبالي، المهم ألا يكون ذلك عن غضبٍ عليَّ يا ربِّ! فكان يخاف من غضب الله، وهو في المعاناة الداخلية النفسية، وبعض الشباب أو الدعاة اليوم يقول له بعض الناس كلمة فقط، تجده ينفعل ويثور ويضارب، أنا على الحق، سبحان الله! ما دام سرت في طريق الهداية لم يعد لك عرض، ولا نفس، ولا كرامة، قدمها قرباناً إلى الله.
ومع هذا ما انتقم لنفسه صلّى الله عليه وسلم، فيرسل الله له ملك الجبال، ومعه جبريل، ويقول جبريل: (السلام يقرؤك السلام يا محمد! ويقول: هذا ملك الجبال إن شئت أن يطبق عليهم الأخشبين -الجبلين فتبلعهم الأرض- فقال: لا.
لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يقول: لا إله إلا الله) الله أكبر! هذه تكشف لك نفسية النبي صلى الله عليه وسلم وأنه رسول حق.
والله لو كان شخص منا، فسيقول: نعم فهؤلاء ليس فيهم خير.