للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا]

أيها الإخوة في الله: إن الانطلاق في هذه الحياة دون اكتراث، والاكتفاء ببعض الأعمال الباردة لهو نذيرُ هلاكٍ وعلامةُ خسارة.

وإن إهمال النفس، وعدم محاسبتها، والاستغراق في شهواتها، والانغماس في ملذات الحياة، والمنافسة على الحطام الفاني دليلٌ على ضعف الإيمان أو على انعدامه.

فمحاسبةُ النفس ضرورة تتمشى مع طبيعة هذا الدين، يقول عز وجل وهو ينادي أهل الإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:١٨] ما معنى هذه الآية؟ يعني: محاسبة {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:١٨] حتى لا تقول: أنا والله لم أعلم يا ربِّ، لا.

بل اتقِ الله، فالله يعلم ماذا تعمل.

ثم يحذرك ويقول: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ} [الحشر:١٩] هؤلاء هم الضائعون، نسوا الله، فماذا حصل؟! {فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:١٩] يعني: ما حاسبوا أنفسهم {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:١٩].

ثم بين الله أن هؤلاء لا يستوون مع هؤلاء، فقال عز وجل: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر:٢٠] مَن هم أصحاب الجنة؟! هم الذين حاسبوا أنفسهم، مَن هم أصحاب النار؟! هم الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم.

{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:٢٠] بِمَ فازوا أيها الإخوة؟! بالمحاسبة.

ويروي الترمذي حديثاً في السنن وهو حسن، قال عليه الصلاة والسلام: (الكيِّس -يعني: الفطن، اللبيب، العاقل، الأريب- من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت -هذا هو الكيِّس- والعاجز مَن أتبع نفسَه هواها، وتمنى على الله الأماني).

وهناك أثر لـ عمر يقول فيه: [حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على ربكم، وإن قوماً حاسبوا أنفسهم في الدنيا فسَهُل عليهم الحساب يوم القيامة، وإن قوماً أهملوا الحساب في الدنيا فشَقَّ عليهم الحساب يوم القيامة].

والذي يحاسب نفسه الآن في أنظمة المرور، فيراجع دائماً رخصة القيادة ومتى تنتهي، ويراجع رخصة (الاستمارة) ومتى تنتهي، فيجددها، ويراجع علامة (الفحص) الدوري ومتى تنتهي، فيجددها، هذا عندما يمر في الشارع ويجد نقطة مرور وفي هذه اللحظة تقوم بالتفتيش على السيارات، فبمجرد أن ينظر المرور في الرخصة وإذا بها مجدَّدة، والاستمارة مجدَّدة، (والفحص) جديد، ما رأيكم في هذا؟! هل هو مستريح أم غير مستريح، فعندما يرى الناس كلهم واقفين، يمضي ورأسه مرفوع في السماء، فلا يخاف من شيء، وإذا وقف عند العسكري: - أين الرخصة؟ - خذ.

- أين (الاستمارة)؟ - تفضل.

- عجيب! أين الفحص؟ - انظر، أما تراه أنت؟! - يتكلم ورأسه في السماء.

- لماذا؟! - لأنه حاسب نفسه قبل أن يأتي إلى هذا المكان.

- فماذا يفعل به العسكري؟! - غصباً عنه يقول: تفضل.

- لماذا؟ - لأنه محاسبٌ لنفسه، ماضٍ في الخط.

لكن ما ظنكم بشخص رخصته انتهت منذ ثلاث سنوات، (والاستمارة) من يوم أن أخذها لم يجددها، (والفحص) الدوري ما زال على ذلك اللون الأصفر من الـ (١٤٠٨هـ)، قد جاء (١٤٠٩هـ)، و (١٤١٠هـ)، و (١٤١١هـ)، وهو ما زال في (١٤٠٨هـ)؟! ما رأيكم؟! وعندما مرَّ في الخط السريع، وإذا بنقطة المرور تقف هناك، فنظر وقال: أوه! ضرب الفأس في الرأس.

بعضهم يقف جانباً وينزل ويذهب ويقول: سأقعد إلى ما بعد العشاء ثم آتي لآخذ السيارة؛ لكن أفراد المرور أذكياء يضعون له قيوداً يقيدون بها سيارته، وإذا رجع إليها فإذا بها مقيدة، فلا يأخذها إلا بأمرهم.

وبعضهم يحول ويرجع إلى ورائه كيْلْوَيْن أو ثلاثة من أجل أن يبحث له عن مخرج يخرج منه؛ لكن أفراد المرور أذكياء، لا يقفون عند المكان الذي فيه مخرج، بل يقفون عند مخنق، حتى لا يستطيع أحد أن يفر من عندهم.

وبعضهم يقول: والله ورطة؛ لكن الله يخلصنا، لعلنا نخرج من هذا المأزق، بأن يتركنا رجل المرور هذه المرة ويكون طيباً، ويواصل، فإذا وصل عند العسكري ترى السائق وجهه صغيراً، وصوته خافتاً: - أين الرخصة؟! - حاضر.

لا يريد أن يخرجها، يريد أن يلهيه قليلاً حتى يقول العسكري: خلفك أناس، هيا اذهب فقط، وفي المرة الأخرى حضِّرها وأخرجها بسرعة، عندما ترى النقطة حضِّر الرخصة.

ولكن العسكري يقول له: لِمَ لَمْ تحضِّرها؟! ألا تعرف أنا نطالب الناس بالرخص؟! فيقول: دعني أَنْظُر.

فيبحث في جيبه فلا يجدها، فيفتح الدرج فلا يراها: يا أخي! أقول لك شيئاً؟! فيقول العسكري: قف جانباً، قف جانباً، دع غيرك يمشي، ما دام أنه لا رخصة معك فقف جانباً.

ثم يُضْطَرُّ إلى أن يُخْرِجَ الرخصةَ؛ لأن عدم وجود الرخصة مصيبة ثانية، فالذي ليس معه رخصة مصيبته أعظم من الذي معه رخصة ليست مجدَّدة، ثم يأتي بها إليه، ويقول له: والله أنا آسف يا شيخ، المعذرة، والله لم أستطع أن أجدد الرخصة، كان عندي ظروف.

لماذا إذاً تهين نفسك؟! لماذا تذل نفسك؟! لماذا لم تجدد رخصتك وتجعل رأسك في السماء؟! أيها الإخوة! هذا في الدنيا.

فكيف بمن لا يراجع نفسه، ويأتي يوم القيامة وليس عنده رخصة سير إلى الله! بل كان يسير إلى النار، وليس عنده (استمارة) توصله إلى الجنة، وليس عنده بطاقة (فحص) دوري لقلبه وإيمانه؟! يأتي عند الزبانية فلا يقف ربع ساعة ولا نصف ساعة، بل {غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:٦] يقول:

عِشْ ما بدا لك جاهداً في ظل شاهقةِ القصورِ

يُغْدَى عليك بما اشتهيتَ لدى الرواحِ إلى البكورِ

فإذا النفوس تَقَعْقَعَتْ في ضيق حشرجة الصدورِ

فهناك تعلم موقناً ما أنت إلا في غرورِ

إذا بلغت الروح وحَشْرَجَتْ ونَشِبَتْ، فهناك يعرف الإنسان أن هذه الدنيا كلها غرور ومكر وخداع ويقول: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} [الحاقة:٢٥] * {وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} [الحاقة:٢٦].