[المسار الثاني: العمل الصالح]
وبعد الإيمان الطريق الثاني وهو العمل الصالح الذي هو ممثل في الشريعة، فلنصل الصلوات الخمس بكمال الطهارة والخشوع والخضوع في جماعة المسلمين، ولنؤد الزكاة، ولنصم رمضان، ولنحج البيت الحرام، ولنقرأ القرآن، ولندع إلى الله، ولنأمر بالمعروف، ولننه عن المنكر، ولنتعلم دين الله؛ لأن هذه رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم ونحن ورثته: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:١٠٨].
ولكن "على بصيرة" هذه كلمة مهمة؛ لأن من الناس من يدعو إلى الله على غير بصيرة فيعميها، يريد أن يكحلها فيعميها، والبصيرة: هي الفقه في الدين والفهم لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلوبه وهديه في الدعوة، هدي الرسول صلى الله عليه وسلم واضح، وهو: الحكمة واللين، وعدم العنف، والصبر، والتؤدة، لكن القسوة والعنف والشدة والمضاربة هذه ما تؤدي إلى دعوة، تؤدي إلى ردود فعل تجعل الناس أعداءً للدين، حتى في بيتك أنت الآن عندما تأتي وأنت مستقيم ملتزم متدين وتريد الهداية، تدخل البيت وربما تجد أشياء لا تحبها، وتجد أنها مغايرة ومناقضة لما ينبغي أن يكون.
وتريد أن تغير الوضع في البيت بمجرد قلم منك، فتقوم بالصياح على أبيك وأمك وعلى إخوانك، وتظن بهذا أنك تدعو إلى الله! ليس هذا أسلوب الدعوة، أنت بهذا الأسلوب عندما تقف بقوة وبعنف وبمجابهة مع أمك وأبيك وإخوانك تضطرهم إلى أن يقفوا ضدك، ويكرهوك ويكرهوا دعوتك ودينك، وبالتالي يعادونك، وأي شيء يرون أنه يغيظك يعملونه بدلاً من أن يكونوا أنصاراً لك على الخير وأعواناً على الدين.
أذكر لكم قصة لشاب من الشباب الطيب عمره ست عشرة سنة -وقد هداه الله ووفقه- ولكنه مسكين بحكم عدم السعة بالعلم، دخل إلى البيت وأخذ يغير من قريب ومن بعيد، ويخاصم، ويصيح على أمه وأبيه وإخوانه المهم أن أمه ضجرت منه وتصدت له، وأصبحت تبحث عن كل شيء يغيظه تفعله قال لها: لا تخرجي إلى السوق، قالت: لا.
والله سأخرج.
وكانت تخرج إلى السوق وهي متغطية فأصبحت تخرج وهي كاشفة! إذا دخل ورأته وكان الراديو مغلقاً ترفع الصوت جداً، وتقول: إن كنت رجلاً تعال وأغلقه، وإذا اقترب منها ضربته بالعصا المهم صارت تعاديه في كل شيء، وأخيراً اضطر المسكين إلى أن يخرج من البيت، والخروج من البيت هدف من أهداف الشيطان من أجل زعزعة كيان الأسرة وفك رباطها، وفي نفس الوقت إظهار أنك -ما شاء الله- تحب في الله وتبغض في الله، وكنت فاشلاً في دعوتك مع أرفق الناس بك أمك وأبيك، فأعلنت التمرد عليهم والسلبية.
وهذه طريق سهلة يستطيع كل واحد أن يعملها: أن أترك أهلي وأذهب لأقعد في المسجد هذه سلبية، الإيجابية أنني أستطيع أن أصلح هذه الأم، وأن أصلح هذا الأب وأصلح الإخوان، فبم أصلحهم؟ بالصبر بالأسلوب بالحكمة أصبر عليهم ولا أجادلهم، حتى ولو أراهم على المنكرات، أنا نفسي آخذ بالكمال أنا نفسي كإنسان ملتزم لا أسمع حراماً لا أمشي في الحرام لا آكل الحرام لا أسهر على حرام آخذ نفسي بكل كمال لكن غيري آخذهم بالقوة؟ كلا.
كلا، بل آخذهم باللين، والذي يطيعني الله يحييه والذي لا يطيعني الله يجزيه الخير أدعو له في الليل والنهار.
أما أن الذي يطيعني الله يحييه، والذي لا يطيعني الله يلعنه، والله لا يُرد عليه إلا بقول: هذا خبيث، هذا ليس فيه خير، وأبغضه وأخاصمه.
سبحان الله! أنت كنت من قبل هكذا، أنت متى اهتديت؟ بعض الشباب ليس له سوى شهرين أو ثلاثة أو أربعة أو سنة، حسناً أنت كنت ضالاً، لو أنه جاء أحدهم وأنت عاصٍ وضال وجاءك بهذا الأسلوب، بالله كيف يكون وضعك؟ أكنت تطيعه أو تضاربه؟ تضاربه رأساً، وتقول له: اذهب يا شيخ وريحنا منك لكن ربي هداك، ولهذا يقول الله: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيكُم} [النساء:٩٤] الله منَّ عليك بالهداية فارحم هؤلاء الناس.
فهذا الشاب يقول: بعدما تعب منها خرج، وجاءني يشكو عليَّ، فلما شكا عليَّ قلت له: يا أخي أنت أخطأت، حقيقة أنت السبب في فساد أمك، أمك طيبة وصالحة، ولكن أسلوبك هو الذي أفسدها، وعليك أن تصلح ما أفسدت.
قال: كيف أصلح ما أفسدت؟ قلت له: ارجع إلى البيت.
قال: كيف أرجع والمنكرات؟ قلت له: في غرفتك لا تسمع المنكرات ولا تنظر إلى المنكرات، لكن لا تقل لهم شيئاً، جئت وهم على المنكرات دعهم، أمك تريد أن تخرج إلى السوق اذهب معها، يقول الله: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [العنكبوت:٨] لكن: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:١٥] فأنت في نفسك لا تطعهم في المعصية لكن دعهم على ما يريدون وتدرج رويداً رويداً.
اغتنم الفرص، اهتم بالمناسبات، استغل الأوقات التي يكون فيها يقظة عندهم مثل الوفاة، مثل المرض، مثل الموعظة، عظهم بكلمة، لا تعطهم الكثير، بل مثل المريض، الآن المريض إذا أتيت عليه وهو مريض سوف يموت هل تفتح فمه وتدخل الأرز غصباً؟ هو لا يريد الزاد، هو مريض الآن، تأتي له بالأرز واللحم وتأتي له بالإدام والفاكهة، وتقول له: كل.
يقول: لا والله.
فماذا يحصل؟ ماذا تقول له؟ تقول له: من فضلك، لأجل خاطري، هذه الملعقة فقط، والله إذا لم تأكل الزاد لن آكل ولن أتغدى، أكرمني هذه المرة، فيقول: يا ولدي أنا لا أريد أن آكل، أو تقول أمك -إذا كبرت-: يا ولدي أنا لا أريد أن آكل، يا ولدي أنا مريضة، فتقول: لقمة فقط، فتقول: هات هذه اللقمة، وتأكلها بغصب.
أو أنك تقول: لا والله لا بد أن تأكل غصباً عنك، ثم تأخذ وتمسك لحيته من فوق ومن تحت ثم تأتي بالصحن وتصبه! لو فعلت هذا ماذا يحصل؟ ماذا يقول لك أبوك أو أمك؟ يقول: الله لا يكثر خيرك، ولا يجمل حالك أنت ولا زادك، لا أريد الزاد بهذه الطريقة، أكثر الشباب الآن لا، يريد أن يغصب أمه أو أباه ويدحس الدين دحساً في قلوبهم، اسمعي اسمعي، خذي حتى تكرهك، وتقول: اتركنا منك ومن كتبك وأشرطتك ودينك يا أخي! هذا الأسلوب ليس من أساليب الدعوة، الأسلوب يكون باللين، تأخذها مرة بالسيارة وتسمعها شريطاً، إذا قالت: أغلق، تقول: طيب.
فقال لي هذا الرجل: والآن ماذا أفعل؟ فقلت له: الآن اذهب إلى البيت وثلاثة أشهر لا تقل لها ولا كلمة، إلا عندما تحييها في الصباح وفي المساء، وتسلم على يدها ورأسها، وتقبلها، وتطيعها، ولا تغير منكراً، قال: طيب، جزاك الله خيراً.
ذهب الرجل ثلاثة أشهر وهو مثل العسل في البيت، جالس معهم في البيت، وأي طلب يرسلونه يذهب هو، وكان في السابق لا يدخل البيت وإنما يبقى مع الإخوان في الله، مع الزملاء، لا يشتري لأهله شيئاً ولا ينفعهم بشيء، لكن الآن عندما ذهب وأصبح موجوداً باستمرار، أي طلب إلا وهو الأول؛ أحبوه فهو معهم موجود في البيت.
بعد ثلاثة أشهر قالت الأم: تعال يا ولدي -الله يوفقك- الحمد لله الذي هداك -انظر اعتبرت سكوته هداية على مفهومها هي- ماذا بك؟ فقال لها: الحمد الله، الحقيقة أنا كنت من قبل مخطئاً، كنت أغير عليك، وأنت فيك خير، وأنت طيبة، وأنت فيك دين وإيمان، لكن أنا المخطئ، أنا قليل الدين، أنا الذي ما عرفت كيف أتكلم ولا شيء، الآن ماذا تريدين؟ قالت: يا ولدي ما رأيك في السوق؟ قال: ليس فيه شيء، اخرجي، ولو خرجتِ ماذا يضر؟ أنت صاحبة دين، وأنت فيك غيرة، قالت: يا ولدي والله لن أخرج مرة ثانية لأجل خاطرك، انظر كيف أتت المبادرة منها هي، والله لن أخرج مرة ثانية وهذا السوق خبيث، ليس فيه إلا رجال وليس فيه شيء، اذهب يا ولدي وائت لنا بالمقاضي، قال: أبشري، ما دام عرفتِ فأنا خادمكِ، أي طلب تريديه أنا آتي لكِ به، وأرجع الذي لا يصلح، ولو يطلع ويرجع عشر مرات.
قالت: وهذا الفيديو -لديها فيديو وأفلام- ما رأيك فيه؟ قال: ليس فيه شيء، اتركيه، الذي يريد أن يشاهد يشاهد، والذي لا يريد أن يشاهد على (كيفه) قالت: أعوذ بالله! كيف أتركه في بيتنا، وأنت ولدنا وفيك خير وأنا إن شاء الله فيَّ خير، وأبوك فيه خير؟ والله لن يجلس في البيت، أخرجه، أصبحت أمه داعية، ذهب أبوه في الليل يريد أن يسهر، قالت: انظر ربي رزقنا بولد صالح وطيب، ونحن نعاديه وضده، لماذا؟ ما رأيك لو ولدنا فاسق أو زاني أو يبيع مخدرات أو مع الخمور أو في القهاوي؟ هل نحن نغضب؟ قال: نعم والله نغضب، قالت: طيب لما هداه ربي هل يصلح أن نعاديه؟ قال: لا والله، بل نعينه.
وبعد ذلك وإذا بالأسرة كلها، جاء الإخوان يقول الولد: كنت أذهب إلى المسجد وأصلي في الأمام، وآخذهم بالعصا أضربهم بها، فيخرج واحد يختبئ في الحمام، والثاني يختبئ في (الحوش) وأضاربهم ولا أقول لهم شيئاً، أما الأب فقال: انظروا والله لو يتأخر واحد عن المسجد لأن كلمة الأب ليست مثل كلمة الأخ، أنت تهدد لكن ليس لك عليهم سلطة فهم إخوانك، لكن أبوك إذا هدد يملك أن يصنع شيئاً، فكان الأب وكانت الأم وكانت الأسرة كلها في سبيل الهداية بسبب لطف الولد، الدعوة تكون بأسلوبك ومنهجك ولكن باللطف، لا تستعجل.
الهداية تنقسم إلى قسمين: هداية إرشاد ودلالة، وهداية اتباع واهتداء.
الأول: على الأنبياء وأتباعهم.
والثاني: لله.
حسناً أنت تريد أن تبقى على ما تشاء، تريد أن تدعو الآن، أو تريد أن تدعو الناس غداً، أو أنت على مراد الله؟! أنت على مراد الله، وليس الله على مرادك، الله إذا أراد لك الهداية التزمت، أنت اسلك فيها فقط، ولذلك يقول الله عز وجل: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:٥٦] وقال: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:٤٨] {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة:٢٧٢] هداهم ليس بيدك، ما أدراك لعلك يوماً من الأيام تقول لواحد: قال الله وقال رسوله، وإذا لم طعك تقاطعه، تقول: والله هذا خبيث وليس فيه خ