[ما تهدف إليه سورة الأنعام]
تطوف هذه السورة بالقلب البشري، وتحلق به في الآماد والآفاق، والأغوار والأعماق؛ ولكنها تمضي كلها على منهج القرآن، إنها لا تهدف إلى تصوير نظرية العقيدة، ولا إلى جدل يشغل الذهن والفكر؛ ولكن تهدف إلى تقرير حقيقة إلى تعريف الناس بربهم الحق؛ لتصل بهم من خلال هذا التعريف إلى العبودية الحقة لربهم الحق، فلا يعبدون الهوى، ولا الشهوات، ولا الأهواء والنفعيات، وإنما يعبدون الله يعبدونه بضمائرهم، وقلوبهم، وأرواحهم، يعبدونه بسعيهم وحركتهم، يعبدونه بشعائرهم، يعبدونه في واقعهم، فكله لله؛ لأنه السلطان الذي لا سلطان لغيره في الأرض ولا في السماء، هذا هو هدف السورة.
ويكاد اتجاه السورة يمضي إلى هذا الهدف من أولها إلى آخرها: الله هو الخالق، وتلمس هذه القضية من أول آية: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام:١] وماذا بعد ذلك؟ {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:١] جعل الظلمات ثم جمعها ووحد النور، النور واحد، والظلمات كثيرة: ظلمات الكفر، والنفاق، والشُّبَه، والضلالات، والأهواء، والشهوات كثيرة؛ لكن طريق الله واحد، ولهذا يقول الله عز وجل: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ} [البقرة:٢٥٧] أي: الظلمات الكثيرة، {إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:٢٥٧].
فمِن أول وهلة وأنت تقرأ السورة تجد ثناءً على الله.
لِمَ هذا الثناء؟! لأنه أهل الثناء والمجد؛ لأنه الخالق.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الأنعام:١]، وليس الحمد لِهُبَل، ولا للشيطان، ولا لِلاَّت، ولا للنفس، ولا للرغبات، بل لله، لماذا؟! {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:١] نور تكشف به.
يقول العلماء: إن النور مهما كان ضئيلاً يبدِّد الظلمات مهما كانت معتمة، إذا دخلت مجلساً أو صالة وقد انطفأت الكهرباء وخيَّم الظلام حتى لا ترى يدك، وأردت أن تبدد الظلمة من هذا المكان، ماذا تصنع لتبديد الظلام؟ تأخذ العصا؟! تلاكم؟! تضارب؟! لا، لا تفعل شيئاً، عليك أن تشعل النور، أي نور كان، مهما كانت نسبته، ولو صفراً، هذه (السهَّارية) نور، لو أن القوة فيها صفر أو (٥) وات، أو (٥) شمعات، لو أنرتها فإن الظلام الذي يملأ الغرفة أين يذهب؟! سوف يخرج من الباب، ولن يبقى، لماذا؟! لأنه دخل الذي يخرجه، وهو النور.
فإذا كان في قلبك ظلمة فكيف تخرجها؟! أشعل النور، بعض الناس في قلبه ظلمة، فيحاول إخراج الظلمة فيضيف ظلمة، عنده هم وغم فيقال له: أنت غضبان؟ فيقول: نعم.
فيقال: هيا نتمشى، نرى منظراً جميلاً.
فيخرج إلى السوق ليرى منظراً محرماً فتزداد الظلمات في قلبه.
أو يقول: هيا لنشتري شريطاً فيه أغنية، فيسمع الأغنية من أجل أن يزيل الظلمة، فيزيدها ظلمة على ظلمة.
أو يشتري شريط فيديو، أو يركِّب فوق سطح بيته صحناً فضائياً من أجل أن تنصبَّ عليه حمم الظلمات من كل أرض، ما عاد يريد ظلمة واحدة، بل يريد ظلمات العالم كله فوق رأسه، تخرخر على رأسه وامرأته وعياله، وكلما انتهت ظلمة انتقل إلى ظلمة، يعيش على الظلمات، هذا مظلم -والعياذ بالله- {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور:٤٠].
والذي يعيش في ظلمات هنا يموت وهو مظلم القلب، ويتحول قبره إلى ظلمات، ويُحشر يوم القيامة في الظلمات.