[حقيقة تلاقي أرواح الأموات وأرواح الأحياء]
المسألة الثالثة: من المسائل التي يمكن أن نسأل عنها ونناقش فيها: هل تتلاقى أرواح الأموات وأرواح الأحياء؟ فالسؤال الأول هل يعرف الأحياء ما يجري من نعيم أو عذاب في القبور؟ وقد أجبنا عليه.
والثاني: هل تتزاور أرواح الأموات مع بعضها في القبور؟ وقد أجبنا عليه.
أما الثالث: فهل تتزاور أرواح الأموات مع الأحياء الذين على ظهر الأرض؟ وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله: هذه مسألة شريفةٌ عظيمة القدر وجوابها: أن الأرواح في عالم البرزخ على قسمين: أرواح معذبة وأرواح منعمة، فالمعذبة في شغلٍ شاغلٍ بما هي فيه من العذاب عن التزاور والتلاقي، ولهذا فالمعذب لا يزور أحداً في الدنيا.
فالذي يزور هو من يكون في نعيم، أما الذي يكوى ويحرق بالنار، بالليل والنهار فليس عنده وقت ليزور أحداً، وإنما هو في شغلٍ شاغلٍ بما سلط عليه من عذاب القبر والعياذ بالله.
قال: وأما الأرواح المنعمة فهي تتلاقى وتتزاور وتتذاكر ما كان منها في الدنيا وما يكون من أهل الدنيا، فتكون كل روح مع رفيقها الذي هو على مثل عملها وروح نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الرفيق الأعلى قال عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:٦٩] وهذه المعية ثابتةٌ في الثلاث الدور، الدنيا، ودار البرزخ، ودار الجزاء، والمرء مع من أحب في هذه الدور نسأل الله الذي لا إله إلا هو إن يحشرنا في زمرته؟ وأن يجعلنا ممن يعيش معه ويراه صلوات الله وسلامه عليه.
يقول الإمام الشعبي: جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي ويقول: (يا رسول الله! يا نبي الله! والله الذي لا إله إلا هو إني لأحبك أكثر من نفسي وأهلي ومالي، وإني أكون في أهلي فأذكرك فلا تهدأ نفسي حتى آتي إليك فأنظر إلى وجهك يا رسول الله! وإني ذكرت يا رسول الله! أنك ستموت وأنني سأموت فعرفت أنني لن أكون معك في الدار الآخرة، وأنك ستكون في منزلة النبيين، وأنني إن دخلتُ الجنة كنت في منزل أدنى من منزلتك، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم -فانظروا إلى نظرة الرجل البعيدة، يقول: إنك ستموت وأنت مع النبيين وأنا إن دخلتُ الجنة لن أكون مع النبيين ولن أراك، فماذا أفعل؟ قال:- فلم يرد عليه النبي فنزل قول الله عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:٦٩]).
هذا نصٌ في ذلك وقد أخبر الله عز وجل عن الأحياء أنهم يرزقون عند ربهم وأنهم يفرحون ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، وهذا دليلٌ على تلاقيهم في عالم البرزخ من وجوه ثلاثة: الأول: أنهم عند ربهم يرزقون.
والثاني: أنهم يستبشرون بإخوانهم لقدومهم عليهم من بعدهم.
والثالث: أن لفظ الاستبشار يفيد أنه يبشر بعضهم بعضاً فهم يتباشرون بذلك بالآخرة كما كانوا يتباشرون بالبشرى في الدنيا.
وقد تواترت الروايات فيما يتعلق بتلاقي أرواح الصالحين في الآخرة مع أرواح الصالحين في الدنيا كثيراً جداً ومنها: ما روى صخر بن راشد قال: رأيت عبد الله بن المبارك -هذا الذي ذكرنا قصته- بعد موته فقلتُ له: ألست قد مِتَّ؟ قال: بلى، قلت: فما صنع الله بك؟ قال: غفر لي مغفرةً أحاطت بكل ذنبٍ، قلت: فأين سفيان الثوري؟ قال: بخٍ بخٍ ذاك: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:٦٩].
وقال أبو عبد الله بن مندة: حدثنا أحمد بن محمد بن إبراهيم عن مطرف عن جعفر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله عز وجل: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر:٤٢] قال: [بلغني أن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فيتساءلون بينهم فيمسك الله أرواح الأموات ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها].
وقد دل على التقاء أرواح الأموات والأحياء أن الحي يرى الميت في منامه فيستخبره فيخبره الميت بما لا يعلم الحي فيصادف خبره كما أخبر.
وأبلغ من هذا أنه يخبره بما عمله من عمل ولم يطلع عليه أحداً غيره.
يقول ابن القيم رحمه الله قال سعيد بن المسيب -وهو من أئمة التابعين-: [التقى عبد الله بن سلام -وهو صحابي من اليهود أسلم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم- وسلمان الفارسي فقال أحدهما للآخر: إن مت قبلي فالقني في المنام -انظروا إلى يقينهم بقضية الموت- قال: إن مت قبلي فالقني في المنام وأخبرني بما لقيت عند الله، وإن أنا مت قبلك فسوف ألقاك فأخبرك، فقال الآخر: وهل تلتقي الأموات والأحياء؟ قال: نعم.
أرواحهم في الجنة تذهب حيث تشاء، قال: فمات أحدهم فلقي الآخر في المنام، فقال له: ماذا أصنع؟ قال: توكل على الله وأبشر فلم أر مثل التوكل].
قال العباس بن عبد المطلب: [كنت أشتهي أن أرى عمر في المنام فما رأيته إلا بعد حولٍ من موته فرأيته يمسح العرق عن جبينه وهو يقول: هذا أوان فراغي إن كاد عرشي ليهد لولا أني لقيت رءوفاً رحيماً] ولما حضرت شريح العابد الوفاة دخل عليه عبيد بن الحارث وهو يجود بنفسه فقال: يا أبا الحجاج إن قدرت أن تأتينا بعد الموت لتخبرنا بما لقيت من ربك فافعل -وكانت كلمة مقبولة عند أهل العلم وأهل الفقه في الدين- فمكث زماناً بعد موته لم يره ثم رآه في المنام فقال له: كيف حالك؟ قال: تجاوز ربي عن الذنوب فلم يهلك منا أحداً، قلت: إلا من؟ قال: إلا الأعيان، قلت: ومن هم؟ قال: الذين يشار إليهم بالأصابع.
يقول هؤلاء رسبوا في الامتحانات.
وقال عبد الله بن عمر بن عبد العزيز: رأيت أبي في النوم بعد موته كأنه في حديقة فدفع إليَّ تفاحات، فأولتهن الولد فقلت: أي الأعمال وجدت يا أبتِ؟ قال: الاستغفار يا بني.
فالاستغفار من أعظم الأعمال؛ لأن الله عز وجل جعله أماناً من العذاب في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد موته قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:٣٣].
نسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يغفر لنا وإياكم ذنوبنا وأوزارنا، وسيئات أعمالنا، وأن يتقبلنا في عباده الصالحين إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.