الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الإخوة في الله! هذا الدرس بعنوان: (لا تقنطوا من رحمة الله) وهذا العنوان جزء من آية كريمة في كتاب الله عز وجل، وقد بين الله عز وجل فيها للناس الذين أسرفوا في الذنوب وأمعنوا في الخطايا، فدعاهم ألا يقنطوا من رحمة الله، ودعاهم أيضاً بأن سماهم عباده فقال:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ}[الزمر:٥٣ - ٥٤] إلى آخر الآيات.
ومنهج الإسلام في التعامل مع النفس البشرية منهج عظيم ينطلق من علم الله عز وجل بحقيقة هذه النفس؛ لأن الله عز وجل هو الذي خلق النفس:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}[الشمس:٧ - ٨]{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الملك:١٤] يعلم ضعفها، وحقارتها، وتسلط الأعداء عليها، ولذا فإن الله تبارك وتعالى عاملها عن علم، وفرض عليها ورباها من طليق الفهم بها والعلم بأسرارها، فالنفس تعتمد في الأصل على إدراك الحق، هذا مطلب، وهو: أن يدرك كل إنسان الحق الذي من أجله خلقه الله تعالى {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}[الرعد:١٩].
الناس أحد رجلين: رجل يعلم الحق والدين وأدركه، ومعنى الإدراك يعني: بلوغ هذه الحقائق إلى أعماق النفس البشرية.
هذا يسمى إدراك، ليس فهماً ولا علماً، لا.
إدراك يقيني، هذا رجل وفقه الله فأدرك.
- وآخر لم يدرك ولم يعرف الحق فهو أعمى عن طريق الحق:{وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً}[الإسراء:٧٢].
فالأول: أدرك الحق، وترتب على إدراكه للحق أن سار في طريق الحق؛ فقام بالفرائض والواجبات، وانتهى عن المحارم، وترك المعاصي والمنكرات، وهذا الفعل كفيل بأن يصل به إلى أعلى درجات الكمال إذا قام بأوامر الله وانتهى عما حرم الله، لم يعد إنساناً بشرياً بسيطاً عادياً، بل يرتفع عن مستواه؛ لأن الله تعالى يقول:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}[الشمس:٧ - ٩] أي: ارتفع بها، التزكية هي: الارتفاع والعلو بالنفس البشرية {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}[الشمس:١٠] أي: غمسها ولطخها بالذنوب والمعاصي، فإذا فعل الإنسان الطاعات وترك المعاصي ارتفع إلى ذروة الرفعة، فهنا يصبح جديراً بأن يكون من عباد الله، وأن يكون خليفة في الأرض، إلا أن الإنسان بحكم بشريته، وطبيعة خلقه لا يبقى دائماً في سمو، بل ربما تعثر به القدم وتزل، وربما يسقط إما بسبب جهله، أو شهوته، أو ضغط شبهة، أو بتأثير رفقته، كل هذه مؤثرات تحاول أن تجذب الإنسان وهو في طريق السمو والارتقاء، شهوات، شبهات، رفقة، غفلة، جهل كل هذه اسمها مثبطات، فيحصل له بهذا انحراف عن السير في الطريق الصحيح.