[محاولة التأثير على عم النبي صلى الله عليه وسلم]
من أبرز تلك الأساليب: محاولة التأثير على عمه أبي طالب حتى يكفه عن الدعوة أو يجرده من الحماية والجوار الذي كان يتمتع به في ظل وجود عمه أبي طالب، فقد ذهبت مجموعة من أشراف قريش إلى أبي طالب وقالوا له: إن ابن أخيك سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفنا أو تكفه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه؛ لأن أبا طالب كان على الشرك ومات عليه، لكنه كان يحمي النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال عليه الصلاة والسلام: (ما زلت في عز ومنعة حتى مات أبو طالب).
وما نال المشركون منه شيئاً حتى مات أبو طالب، كان يشكل الحماية الخارجية، ولهذا سمي العام الذي مات فيه أبو طالب وماتت فيه خديجة سمي (عام الحزن)؛ لأنه انكشف ظهر النبي صلى الله عليه وسلم في المواجهة الخارجية، وأيضاً فقد الدعم الداخلي في المنزل من صاحبة الرأي والمشورة، وصاحبة المواقف البارزة وهي خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وأرضاها، فحزن صلى الله عليه وسلم حزناً عميقاً بعد وفاة أبي طالب ووفاة خديجة، ولذا قال الكفار لـ أبي طالب: إنك على مثل ما نحن عليه.
أي: أنت مشرك مثلنا، والذي يتعرض لنا هو -أيضاً- ينالك أنت أولاً، فقال لهم أبو طالب قولاً رفيقاً ورد عليهم رداً جميلاً وانصرفوا عنه، لكن لم يستجب أبو طالب لهم ولم يتكلم على النبي صلى الله عليه وسلم.
ومضى الرسول صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه، يدعو إلى دين الله، ويستمر في نشر الدعوة، وهنا غضبت قريش وحقدت على النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءوا مرة أخرى إلى عمه أبي طالب، لكن جاءوا إليه بأسلوب آخر، الأسلوب الأول كان طلباً، الأسلوب الثاني تهديداً وقالوا له: يا أبا طالب، إن لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا -أي: لك مكانة- لست رجلاً مغموراً ولا رجلاً هامشياً؛ لأنه من أشرافهم وكبرائهم، فذكروه بمكانته وبمنزلته، قالوا: لك سن، ولك شرف، ولك منزلة فينا، وإنا قد استنهيناك عن ابن أخيك فلم تنهه عنا، وأقسموا له بأنهم لن يصبروا على أفعاله حتى يكفه عنهم أو ينازلوه -أي: ينازلوا أبا طالب، حتى يهلك أحد الفريقين- عند هذا عظم خطب أبي طالب؛ لأنه شق عليه أن يفارق قومه ويعاديهم، وأيضاً شق عليه أن يسلم الرسول صلى الله عليه وسلم ويخذله، ولذا استدعى النبي صلى الله عليه وسلم وأبلغه بالذي قاله له الكفار، وطلب منه أن يبقي عليه وعلى نفسه، وألا يحمله من الأمر ما لا يطيقه، وقال له: وضعتني في خيار صعب: إما أن أسلمك لهم، وإما أعاديهم، وكلاهما صعب، فالأفضل والحل الوسط أنك تتركهم وتترك آلهتهم وتترك محاربتهم؛ حتى لا تعرضني أنا لضرر منهم، أو تعرض نفسك لأذى لا تطيقه؛ لأنه ليس بإمكانك أن تواجه القبيلة بأسرها.
وفي رواية لـ ابن إسحاق: أن النبي صلى الله عليه وسلم لمس من عمه في هذه العبارات الضعف والإشارة إلى عدم القدرة على نصرته، ولذا قال له في جواب عظيم: (والله يا عم! لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه) ثم بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقد علق ترك الدين والدعوة إليه على المستحيل، يقول: على فرض أنهم جاءوا بالشمس ووضعوها -وهذا مستحيل- في يميني والقمر في يساري -وهذا مستحيل- ما تركت، حتى لو فعلوا المستحيل، حتى يظهره الله أو أموت دون هذا الدين، ثم بكى صلى الله عليه وسلم، ولم يبكِ صلى الله عليه وسلم بكاء الضعيف، ولكنه بكاء الشجاع الذي يقول هذه الكلمات العظيمة التي تهتز الجبال الرواسي أمامها وأمام قوتها وصلابتها، ثم يستجيش العاطفة في قلب أبي طالب، وكأنه يقول له: أنت عمي وما أرى أن تخذلني، ثم قام من عند عمه، وولى عنه، فلما ولى ناداه أبو طالب، وقال: أقبل يا ابن أخي، فلما أقبل قال: اذهب على ما أنت عليه فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لهم أبداً.
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على إسلامه؛ ليس لأنه عمه من حيث النسب، لا.
ولكن لمثل هذه المواقف التي وقفها في حماية الدعوة، ولهذا كان حريصاً حتى آخر لحظة من لحظات حياته، وهو يلفظ الروح جاء إليه يقول: (يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله) يريد فقط مبرراً وحجة، يقول: لا إله إلا الله، ما عاد في صلاة ولا صوم، لكنه وبتأثير من قرناء السوء الذين قالوا له: أترغب عن ملة عبد المطلب، فنظروا إليه ونظر إليهم، ثم قال في آخر لحظة من لحظات حياته: على ملة عبد المطلب.
ومات مشركاً.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك) فاستغفر صلى الله عليه وسلم لعمه، فأنزل الله عز وجل النهي له وللمؤمنين من بعده إلى يوم القيامة، وقال: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:١١٣] لأن القرابة قرابة العقيدة، والصلة صلة الدين، فإذا كان ليس على مثل ما أنت عليه من الدين فلا صلة ولا قربى، ولو كان أباك، ولو كان ولدك، قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:٢٢] لماذا؟ {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} [المجادلة:٢٢] من كتب الله في قلبه الإيمان تجد في قلبه التجرد، والحب في الله والبغض في الله، يحب عباد الله ولو كانوا من أبعد مكان ومن أي لون ومن أي جنس، ويبغض أعداء الله ولو كانوا أقرب الأقربين إلى نفسه، ولهذا نوح عليه السلام لما قال الله له: {فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [المؤمنون:٢٧] ظن عليه السلام أن معنى أهلك أي: أهلك في النسب، زوجتك وأولادك وجماعتك، فركب وركب أهله لكنه ابنه أبى أن يركب، قال: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا * قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ} [هود:٤٢ - ٤٣] فقال نوح لربه: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود:٤٥] أنت قلت: وأهلك، وهذا من أهلي، أي: لا تغرقه، دعه يسلم مع بقية الناس، قال الله له: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:٤٦] وهو ابن نوح، لكن الله ينفي عنه الأهلية، ويقول: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:٤٦] ما دام ليس هو على دينك، ليس من أهلك.
وكذلك -أيها الإخوة- هذا هو الضابط ويشكل مبدأ من مبادئ المسلم وهو: أن يحب في الله ويبغض في الله، ولهذا جاء حديث في صحيح مسلم وصحيح البخاري: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار).
فكان موقف النبي صلى الله عليه وسلم من أبي طالب بسبب مواقفه تلك التي وقفها، لكن لما نهاه الله لم يعد يستغفر له، وقد خفف على أبي طالب من العذاب في النار، ولكن لا تخفيف في النار، جعله الله في ضحضاح من نار، والضحضاح في اللغة هو: الماء الذي يغطي الكعب، فالنار تغطي أهل النار كلهم إلا أبا طالب فالنار إلى كعبه فقط، ما رأيكم هل هذا تخفيف؟ هل تستطيع أن تمشي في النار، إذا أتيت مكاناً حاراً هل تمشي عليه؟ جرب عندما تخرج من الحرم وما معك حذاء، فتمشي من الباب إلى السيارة لا تستطيع المشي، تنسلخ رجليك من حرارة الأرض فكيف بالنار! ولهذا لا يرى أبو طالب أن في النار أشد عذاباً منه، وهو في ضحضاح من نار -نعوذ بالله وإياكم من عذاب النار-.
في هذا الموقف وفي هذا الأسلوب عبرة وحكمة وهو: أن هذا الموقف القوي من الرسول صلى الله عليه وسلم من المشركين ينسجم مع ما أمر به من البلاغ، فإن الله فقال له: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:٩٤] وبعد ذلك طمأنه قال: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} [الحجر:٩٥].
موقف فيه عبرة وهو موقف أبي طالب، وهذا الموقف عجيب: مشرك وكافر ولكن يقوم بهذه الخدمة للدين، وليس لهذا تفسير، وقد اجتهد العلماء على هذا منهم ابن كثير قال: إن الله سبحانه وتعالى امتحن قلب أبي طالب بحب محمدٍ صلى الله عليه وسلم حباً طبيعياً لا حباً شرعياً؛ لأنه لو أحبه حباً شرعياً لأحب دينه، لكن أحبه حباً طبيعياً؛ لأنه ابن أخيه، وكان استمراره على دين قومه من حكمة الله، ومما صنعه لرسوله من الحماية، إذ لو أسلم أبو طالب لما كان له عند مشركي مكة وجاههة ولا مكانة، ولحاربوه مثلما حاربوا غيره من المسلمين، لكن ليحمي رسول الله بقي على دين قومه، ولما هابوه واحترموه، لو عرفوا أنه قد أسلم لتجرءوا عليه ولمدوا أيديهم عليه وألسنتهم إليه بالسوء، ولكن سبحان الله! {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:٦٨].
وقد قسم الله العباد إلى أقسام: فهذان العمان كافران، أبو طالب وأبو لهب، اثنان أحدهما يحمي والآخر يحارب، فـ أبو طالب