أحد السلف، وهو صلة ابن أشيم العدوي، الشهيد ابن الشهيد، كان في الجهاد، ومات شهيداً، وكان يقوم في الليل، ويجاهد في النهار، كانوا فرساناً في النهار رهباناً في الليل، يقال عنه: أنه كان إذا قام من الليل ثم فتر، أخذ السوط وقام يضرب رجليه، ويقول: والله إنك لأحق بالضرب من دابتي، تتعبين من الصلاة، فتقوم رجله تصلي، إما صلاة وإما ضرب.
هؤلاء الرجال يا إخواني! وهؤلاء الأبطال، هم الذين عرفوا كيف يربون أنفسهم، يقول ثابت البناني:[جاهدت نفسي على قيام الليل عشرين سنة، وتلذذت بها عشرين سنة أخرى].
ويقول سعيد بن المسيب:[والله ما نظرت إلى ظهر مصلي أربعين سنة] في الصف الأول، لا يُعرف وجهه، ولا سمع الأذان من خارج المسجد أربعين سنة، ما يؤذن المؤذن إلا وهو في الروضة إلا ليلة واحدة سمع الأذان من خارج المسجد وهي ليلة زفاف ابنته على أبي وداعة، وأبو وداعة تلميذ من تلاميذه، ماتت زوجته، ولما توفيت جلس في عزائها ثلاثة أيام فافتقده الشيخ سعيد بن المسيب إمام التابعين، فقال:[أين أنت؟ قال: توفيت زوجتي وجلست في عزائي والتجهيز لها، قال له: أتريد زوجة؟ قال: من أين؟ -فقير ما عنده شيء- قال: أزوجك ابنتي، ترضى؟ قال: نعم.
أرضى] ومن الذي لا يرضى أن يتزوج بنت سعيد بن المسيب وقد خطبها أمير المؤمنين الخليفة الأموي لولده، وجاء بعشرات الجمال محملة بالذهب والفضة والملابس، ولما وصلت إلى المدينة، ردها وقال: ابنتي مخطوبة، لا نريد أن نزوجها، ثم زوجها لـ أبي وداعة، وعقد له ذاك اليوم بعد العصر، وراح أبو وداعة إلى البيت، ولما جاء بعد المغرب، تذكر سعيد بن المسيب أن أبا وداعة، سينام هذه الليلة وليس عنده زوجته، وهذه زوجته عنده ولا يجوز أن يبقيها في بيته، فقال للبنت: انهضي، قالت: أين؟ قال: زوجتك بأحد التلاميذ، ولا بد أن تنامي هذه الليلة في بيته، قالت: حسناً.
ما قال له: نريد قصر أفراح، ونريد شرعة باثني عشر ألفاً، ثم في النهاية يطلقها بعد شهر؛ لأنه زواج قام على غير طاعة الله، وما قال: نريد قصراً فخماً، وستين خروفاً، وأربعين أو خمسين سيارة، وسيارة مزينة يلبسونها بعشرة آلاف، زينة السيارة! أين هذه العقول الضالة؟ انظروا هذا الرجل العظيم قال لابنته: انهضي، وذهبت معه في يده حتى وصل إلى باب أبي وداعة وطرق الباب وهو يؤذن للعشاء، قال:[من بالباب؟ قال: سعيد، قال: من سعيد؟ -يقول أبو وداعة: تصورت كل سعيد في الدنيا إلا ابن المسيب؛ لأن هذا الوقت ما هو في البيت في المسجد- قال: سعيد بن المسيب، قال: ففتحت الباب، يقول: فلما فتحت الباب، أخذ البنت ودفعها من ظهرها، وقال: هذه زوجتك، ذكرنا أنك تنام هذه الليلة عزباً فكرهنا، خذ بارك الله لك] فدخلت بنت سعيد بن المسيب، وجلس معها أياماً، ولما أراد أن يذهب إلى بيت الشيخ سعيد من أجل أن يطلب العلم، قالت: إلى أين؟ قال: إلى الشيخ سعيد؟ قالت: ولم؟ قال: أطلب العلم، قالت: اجلس فعندي علم سعيد.
تقول: الذي عند سعيد هو في رأسي، كان يربيها على الدين، ما رباها على الفساد، ولا أحضر لها دشاً من أجل أن يمطرها بما في الأرض من فساد، كما يفعل بعض الآباء اليوم فيذهب يشتري دشاً بخمسة عشرة أو بعشرين ألفاً ويضعه فوق بيته من أجل أن يغرق زوجته ويغرق ابنته ويربيهم إلى آخر الليل وهم يطاردون الإذاعات والقنوات، من قناة إلى قناة، كلما أغلقت قناة حولوا قناة أخرى، حتى أن بعضهم إذا جاء ينام، لا يستطيع أن ينام، لا يستطيع أن يغمض عينه، قد يبست عينه، ثم يغمضها حتى تغمض وصلاة الفجر الله المستعان لا حول ولا قوة إلا بالله! فلا بد -يا إخوة- من مجاهدة النفس.
الأنفس كما قلت ثلاثة: أولاًَ: أمّارة بالسوء: وهي نفس الإنسان في بداية الطريق، وبعد ذلك إذا رأت أنه رباها، اعتدلت وصارت تأمر بالخير، لكنها أحياناً تسقط وتأمر بالشر، لكن تلومك على فعل الشر، ثم بعد ذلك إذا ربيتها أكثر ترفعت، وصارت نفساً مطمئنة، وإذا أصبحت مطمئنة لم يكن لها مكان في الدنيا إلا الجنة، يقول الله:{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}[الفجر:٢٧ - ٣٠].