للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[البسط في الرزق]

ومن ثمار التقوى والهداية أن الله عز وجل يبسط في رزق عبده المؤمن.

فالله عز وجل يوسع للملتزم في رزقه، وبالاستقراء لم نر عبر حياتنا الطويلة رجلاً صالحاً ضيق الله عليه في معيشته، هل سمعتم بهذا؟ أبداً، طبعاً في زماننا هذا والحمد لله زمن الرخاء بسط الله الرزق على الطيب والخبيث؛ لكن في الزمان الأول وفي كل مجتمع وبيئة لا يمكن أن نجد إنساناً ضيق الله عليه في معيشته، بل كلما ضاقت وسع الله عليه.

فـ حاتم الأصم وهو من التابعين: أراد أن يحج فقال لأهله ولأولاده: إنني أريد أن أحج، ولم يكن عنده نفقة ولا مئونة إلا ما كان معه، وأولاده ما كانوا يريدون أن يمنعوا والدهم من الإتيان بهذه الفريضة الكبرى والقربة العظيمة عند الله، فقالوا له: نحن ما عندنا شيء، فقالت البنت الكبيرة من بناته: أنا عندي شيء، فلما ذهب وودعهم مر عليهم اليوم الأول والثاني والثالث وما عندهم شيء، قالوا للبنت: أعطينا الذي عندك، أنت قلت أن عندك شيئاً، قالت: والله ما عندي شيء لكني ما أردت أن أحبس أبي عن الطاعة، ولكن إذا غاب أبونا فما غاب ربنا، تقول: الله عز وجل سوف ينفق علينا ولو كان أبونا ليس موجوداً.

وفي الليل مر الوالي أو الحاكم الذي في البلد ومعه العسس يعس، وأمام البيت أحس بظمأ فطرق الباب عليهم، وقال لهم: أعطوني ماءً، فقامت الابنة -بنت حاتم الأصم - وتحجبت وحملت الماء وجاءت به إلى الوالي وهي لا تعرف أنه الوالي، فشرب، فلما شرب كان الماء بارداً والإناء نظيفاً فارتوى، حتى إذا ما انتهى أخرج ما في يده وجيبه من نقود، وأخرج الذي معه من الرجال كل ما في جيوبهم اقتداء بالأمير ووضعوه في الكأس وأعادوها، ولما رجعت الكأس وإذا بالكأس التي خرجت مليئة ماء قد رجعت مليئة بالنقود، فدخلت البنت إلى أهلها وهم لا يعلمون بالحادث هذا، وجاء اليوم الثاني وقالوا: أنت التي تركتي والدنا يذهب، ما عندنا شيء، قالت: بل عندي شيء، قالوا: أين؟ فقامت وجاءت بالكأس مملوءة بالنقود، قالت: هذا الذي عندي من الله الذي لا إله إلا هو {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:٢ - ٣] يقول ابن عباس: [أبى الله إلا أن يجعل رزق عبده المؤمن من حيث لا يحتسب] أنت تتوقع وتحتسب الرزق من كل طريق، ولكن بالتقوى يأتيك الرزق من كل طريق {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:٢ - ٣] وقد يقول قائل: ما هو الرزق المقصود في هذه الآية؟ يقول العلماء: ليس الرزق المقصود هو الرزق الكمي، أي: تأتيك كمية نقود كثيرة.

لا.

الرزق المقصود هو الرزق الكيفي، أي: أن الله تبارك وتعالى يجعل في رزقك بركة، وفي قلبك قناعة، فإذا كان راتبك ألفي ريال بالإيمان، وبالتقوى؛ تعدل هذه الألف ريال عشرة آلاف ريال، وإذا كان راتب العبد عشرة آلاف ريال لكن بالكفر، والنفاق والضلال، والمعاصي؛ تصبح قيمتها الورقية والاستعمالية أقل من ألف ريال، كيف؟! أولاً: يفتح الله عليك بصائر في حياتك، أي: بعض الناس يشتري سيارته وتمر عليه السنة، والسنتان، والثلاث، والأربع، والخمس سنوات ولم يغير فيها مسماراً؛ لأسباب بركة هدايته ودينه، حتى قال لي شخص: والله إن عندي سيارة موديل أربعة وثمانين إلى الآن، يقول: يمر عليها خمس سنوات ومشيت بها تسعين ألف كيلو متر، يقول: والله ما غيرت حتى عجلاتها، قلت: لا إله إلا الله سبحان الله! المعروف أن أقصى مسافة لعجلات السيارات ثلاثون أو أربعون أو خمسون ألف كيلو متر.

وقليل هي التي تصل إلى ستين ألف كيلو متر، قلت: كيف يا أخي؟ قال: الحمد لله، يقول: والله ما غيرت عجلاتها ولا بنشر كفر واحد خلال تسعين ألف كيلو متر! قال: ولا بنشر ولا غيرت، قلت: ماذا تعمل؟ قال: فقط (أدق سلف) وأقول بسم الله الرحمن الرحيم في الصباح! فقط هذا هو السر! فحفظ الله سيارته.

لكن من الناس من يركب السيارة وهو ضال -قليل دين والعياذ بالله- من يوم (يعشق) مباشرة قبل أن يقول: بسم الله، يضع الشريط ويشغل الاستريو، استريو من هنا ومن هنا، ومن أمامه ومن وراءه من أجل أن ترجه السيارة.

أنا أقف أحياناً عند الإشارة فيأتي شخص بجانبي يغني فأقفل الزجاج؛ لأن سيارتي تهتز من رجة سيارته، يرج الإسفلت ويرجني معه، ما يقبل حتى بموسيقى، أي: بسيطة، بل يريد شيئاً يرجه من أجل أن تهز عقله -والعياذ بالله- فهذا لا تستمر معه سيارته مائة كيلو، ولا مائتين، ولا سنة إلا وقد خربت، فيذهب راتبه في تصليح السيارة، وبعضهم تذهب رواتبه في علاج زوجته وأولاده، وفي تغيير متطلباتهم، بأسباب ماذا؟ عدم هدايته، لكن لو كان مهتدياً لرزقه الله عز وجل القناعة في قلبه، والبركة في زوجته.

فبعض النساء تقعد عشر سنوات ما تمرض مباركة، وأولاده ما يمرضون، وسيارته لا تخرب، وفرشه لا تبلى، و (موكيتاته) نظيفة، وكل حياته جيدة، لماذا؟ فيه دين، فيه بركة، فيه إيمان؛ ولذا تتوفر له هذه المبالغ، أما إذا لم يوجد دين ولا إيمان فكل شيء يخرب: ثوبه يلبسه الآن وبعد قليل يوسخه، ماذا بك؟! وبعض الناس يلبس الثوب أسبوعاً كاملاً ويأتي يخلعه كأنه ما لبسه، لماذا؟ لأنه نظيف ظاهراً وباطناً، لكن ذاك القذر قذر ظاهراً وباطناً، ويغسل ثوبه كل يوم ولكنه أيضاً ما تنظف؛ لأنه قذر من الداخل لا حول ولا قوة إلا بالله! فهنا الرزق المقصود في هذا هو الرزق الكيفي لا العددي، فقد ترزق مالاً كثيراً لا بركة فيه فتشقى به، وقد ترزق مالاً كثيراً فيه بركة فيبارك الله عز وجل فيه، وهذه لا تأتي البركة إلا عن طريق الدين.