للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[سر تكريم الله للإنسان]

الإيمان -أيها الإخوة- ضروري؛ لأنه يرفع الإنسان إلى الدرجة التي كرمه الله بها، لقوله عز وجل: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:٧٠] بم كَرّم الله الإنسان؟ فكر، وانظر إلى سائر المخلوقات، ثم قم بإجراء موازنة ومقارنة، لتعرف سر التكريم، هل التكريم بالقوة؟ لا.

فالحيوانات فيها من هو أقوى من الإنسان وأشجع، الأسد ملك الغاب، أشجع من أي حيوان، ولو أن التكريم بالشجاعة لكان الأسد أفضل مخلوق، لكن ليس التكريم بهذا.

يقال: إن أسداً وضبعاً وثعلباً خرجوا إلى الغابة للصيد، فاصطادوا كبشاً وغزالاً وأرنباً، فقال الأسد للضبع: قسّم العشاء، فقال: الأمر سهل! الكبش لي، والغزال لك، والأرنب للثعلب، فغضب الأسد غضبة قوية، وضربه على رأسه فقتله، ثم قال للثعلب: قسّم أنت.

قال: الأمر سهل! الكبش غداؤك، والغزال عشاؤك، والأرنب فطورك يا سيدي، فقال الأسد: ما أعظم هذه القسمة! من علمك هذا يا ذكي؟ قال: علمني هذا الغبي وهو ميت.

فحياة الحيوانات قائمة على شريعة الغاب، والبشرية الآن في ظل غياب الدين قائمة على شريعة الغاب.

لمن الحياة في العالم؟ للأقوى.

ليس للأفضل، ولا للأكمل، بل الفاضل الكامل إذا كان ضعيفاً فليس هناك من يقدره، والخبيث الفاشل إذا كان قوياً فالكل يخاف منه، في ظل غياب الإيمان والدين، ولو كان الإيمان موجوداً لكانت الحياة للأتقى لا للأقوى، وللأعلم لا للأجهل.

فَسِرُّ التكريم الذي كرم الله به الإنسان، ليست الشجاعة، ولا القوة، ولا ضخامة البدن، إن سر التكريم: الدين، والإيمان، والإسلام، وقد يقول شخص: لا.

بل سر التكريم العقل، فنقول له: لا.

إن العقل مع كل مخلوق، حتى مع أبلد الحيوانات، فأبلد حيوان يضرب به المثل في البلادة وهو الحمار، ضرب الله به مثلاً لليهود، وقال فيهم: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة:٥] يقول العلماء: وهذا مثلٌ ينطبق على كل من تشبه بأخلاق اليهود، حينما يحمل القرآن ولا يستفيد منه شيئاً، فمثله كمثل الحمار يحمل أسفاراً.

فبالرغم من أنه بليد، ولكن مع بلادته معه عقل، يستطيع أن يستعمله في الوظيفة التي خلقه الله لها، فما هي وظيفة الحمار؟ بينها الله في القرآن حيث قال عز وجل: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:٨] الوظيفة: أنه وسيلة للركوب، ولذا يعرف كيف يقف، وينتظر حتى تحمل عليه، فإذا نزلت مشى، وإذا سافرت به في طريق يعرفها أو يحفظها فإنك تراه يمشي فيها لوحده، وإذا سافرت به بعد سنة في تلك الطريق الأولى فإنه لا يجهلها أو ينكرها، هذه وظيفته، وإذا دفعته إلى النار فإنه يرفض، إذا أوقدت ناراً، أو حفرت حفرة، وأتيت بحمار وأنت تجره بخطامه إلى طرفها، هل ينقاد لك ويلقي بنفسه في النار؟ لا.

ودائماً أذكر قصة قالها لي أحد العلماء من اليمن، قصة فيها عبرة لمن له قلب، وأنا لا أكررها عبثاً، بل أريد من أصحاب العقول أن ينتبهوا لها، يقول هذا الشيخ: إن هناك أناساً يزرعون التبغ (الدخان) ويحصل عندهم قحط شديد، وينحبس المطر، ويوفرون الماء في الآبار لسقيا أشجار التبغ (الدخان) وتضعف الحيوانات، ويبدو عليها الهزال، حتى تظهر أضلاعها على ظهورها، ولا تجد من الأكل إلا الطين من الأرض، يقول: فيؤتى بمجموعة من التبغ الأخضر كالبرسيم، فيقدم إلى الحمار، فإذا اقترب منه وشمه رفضه وهز رأسه، الحمار يترك هذا التبغ وهو أخضر، وبعض البشر يشربونه وهو محروق يابس، لماذا لم يأكله الحمار؟ لأن عنده عقلاً، يعرف أن هذا حار ومزعج وأنه يضره.

لكن بعض البشر يشتري علبة الدخان وقد كُتب عليها: تحذير رسمي: (التدخين يضر بصحتك فلا تدخن!) فلا يقرأ، ولو اشترى علبة مانجو أو بسكويت، ووجد تاريخ الصلاحية قد انتهى لأقام الدنيا وأقعدها، وذهب إلى البلدية وخاصم صاحب البقالة، وقال له: كيف تبيع طعاماً قد انتهت صلاحيته؟ وفعلاً لا يجوز غش المسلمين، ولكن الشاهد كيف أنه يشتري علبة الدخان ولا يفكر؟ وكل طعام معلب في الدنيا عليه تاريخ صلاحية، إلا الدخان ليس عليه تاريخ صلاحية؛ لأنه فاسد من يوم أن صنعوه، بل كتبوا عليه: (التدخين مضر بصحتك فلا تدخن!) وعلبة الدخان بأربعة ريالات، وعلبة البسكويت بريال، أين عقول بعض البشر؟ إنهم يلغونها، وإلا لو حكموا عقولهم وفكروا لوجدوا أن ممارسة التدخين عادة سيئة، ينبغي التمرد عليها، والانتصار عليها، وإعلان رفضها، والابتعاد منها.

صحيح أن العادة تأسر الإنسان، لكنها تأسر الإنسان الضعيف، ضعيف الشخصية، الذي أصبح تافهاً ولا يستطيع أن يتحكم بنفسه، أما القوي فتجده ينتصر على إرادته، ويعلن رجولته.

فليس سر التكريم -أيها الإخوة- عند الإنسان هو العقل، ولكنه الإيمان والدين، وسآتي لكم بدليل من القرآن الكريم، نبي الله سليمان أوتي ملكاً لم يكن لأحد من بعده، قال تعالى حاكياً عن سليمان: {وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:٣٥] فسخر الله له الجبال والطير والوحوش والجن والإنس، وكانت مملكته مملكة عظيمة، وكان مجلس الحكم عنده يمثل فيه جميع فئات المخلوقات؛ أمة الطير، وأمة السباع، وأمة الوحوش، وأمة الحشرات، وكل الأمم موجودة، وكان يعرف أفراد المملكة كلها ويتفقدهم، وفي يوم من الأيام تفقد المملكة، وكانت أمة الطير من بينها، وكم أنواع الطيور؟ آلاف الأنواع في الأرض، ولكن لم يغب عن ذهن سليمان واحد منها اسمه الهدهد: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:٢٠ - ٢١] قال الله عز وجل: {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [النمل:٢٢] أي: تأخر فترة غير طويلة، ثم جاء بمنطق الثقة والقوة، ورغم أنه طائر يخاطب ملكاً ونبياً من الأنبياء، إلا أنه يقول له: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل:٢٢] أي: علمت أمراً لم تعلمه أنت، واكتشفت خبراً لا تدري عنه أنت، إنه خبر مهم، إنهم قوم يشركون بالله، يعبدون غير الله: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّه} [النمل:٢٢ - ٢٤].

انظروا إلى العقلية! والله إن عقلية هذا الطائر أعظم من عقلية ملايين البشر في هذا الزمان، هدهد يغضب لله، لا يرضى أن يُعبد غير الله، لا يرضى أن يُشرك بالله، ويقول بعد ذلك: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّه} [النمل:٢٥] أي: كيف يسجدون للشمس؟ من خلقهم؟ من أوجدهم؟ من فطرهم؟ من يميتهم؟ من يبعثهم؟ من يحاسبهم؟ {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّه} [النمل:٢٥] يستغرب هذا الطائر أن تنصرف العقول عن عبادة خالقها وفاطرها وموجدها، إلى عبادة مخلوق وهي الشمس! وهذه عقلية أخرى.

أيمكن بعد هذا أن نقول: إن الإنسان أكرمه الله بالعقل؟ لا.

فعقلية الطائر أفضل! البعوضة الصغيرة (النامس) يقول ابن القيم في كتاب له اسمه: مفتاح دار السعادة، يتكلم فيه عن أسرار خلق الله بما يدهش العقول: حشرة صغيرة تقف على ست قوائم، وهذه القوائم ذات مفاصل، وهذه المفاصل داخلها عظام رقيقة دقيقة، يجري فيها المخ والدم يقول الناظم:

يا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليلِ

ويرى نياط عروقها في نحرها والمخ في تلك العظام النّحلِ

ويرى ويسمع كل ما هو دونه في قاع بحر مظلم متجلجلِ

امنن عليّ بتوبة أمحو بها ما كان مني بالزمان الأولِ

هذه البعوضة الصغيرة فيها أسرار من الخلق لا يعلمها إلا الله، علماء التشريح عندما يشرحونها يقفون مذهولين، مبهورين، إن تشريح وظائف أعضائها الآن شيء معجز، فمعها في رأسها قرنا استشعار، بمنزلة (الرادار)، ولها خرطوم مثقوب يمص به الدم، أدق من الشعر، ولها رأس، وبطن، وذيل، وأجنحة، وست قوائم بمفاصل وعظام إنها تركيبية عجيبة، وبعد ذلك في رأسها مخ أعظم من مخ الإنسان.

إذا أرادت أن تعيش، فإنها تسلب دمك أيها الإنسان؛ لأن قوت البعوض هو دم الإنسان، فهي تعيش على أعلى وأعز شيء في حياتك، وهو الدم، فعدوك إذا أراد أن يتهددك يقول لك: والله لأشربن من دمك، والبعوضة تقول كذلك: والله لأشربن من دمك، ومع هذا كله فهي لا تشرب من دمك في خفية أو ذلة، بل بعد المواجهة، فأنت تنام على سريرك، فتدخل البعوضة التي بإمكانها أن تلدغك في قدمك أو ساقك أو في يدك، لكن تقول: لا يصلح أن ألدغه قبل أن أعلمه، فتأتي إلى أذنيك وتحدث صوتاً: (طنين)، فإذا سمت صوت طنين البعوضة ذهب النوم عنك، لا يأتيك النوم أبداً، وبعد ذلك ماذا تفعل؟ من الناس من يكون متعباً، لا يستطيع أن يقوم ويحاربها، فيتنغص نومه، ثم يأتي ببطانيته ويدخل رأسه تحتها، وكذلك أقدامه وجوانبه، ويبقى محاصراً لنفسه داخل البطانية، خوفاً من البعوضة، ويصبر على الأذى، ولكن مع شدة الأمر فإنه يرفع البطانية قليلاً من عند رأسه، لعله يأتيه الهواء لماذا كل هذا؟ إنها بعوضة يا مسكين! لا إله إلا الله ما أضعفك! بالله هل من حقك أيها الإنسان الضعيف -يا من تخاف من البعوضة- أن تعصي الله؟!! إذا كانت الملائكة الغلاظ الشداد لا تعصي الله ما أمرها، وهي الملائكة العظيمة الخلقة، ذكر الإما