للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مآل الخاسرين في الآخرة]

من هو الرابح مع الله، ومن هو الخاسر؟ اسمعوا ماذا يقول الله عز وجل: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:١٥] هذا هو الخاسر، ليس الخاسر الذي ضاعت عمارته أو انقلبت سيارته، بل الخاسر الذي إذا مات خسر نفسه وأهله ودخل النار {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر:١٥ - ١٦] هذه الخسارة يوم يكون الظلال ناراً، ومن تحتك نار، وأنت بين ناري السماء والأرض {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف:٤١] هذه الخسارة الحقيقية.

أما الدنيا فأعظم ما في الدنيا أنك تموت، وإذا مت تخلصت نفسك من هذه المصائب كلها، لكن النار ليس فيها موت، فالموت أعظم أمنية عند أهل النار، ينادون وهم في شعابها بكياً من ترادف عذابها، ينادون: يا مالك! قد نضجت منا الجلود، يا مالك! قد تقطعت منا الكبود، يا مالك! قد أثقلنا الحديد، يا مالك! أخرجنا منها فإنا لا نعود، فلا يجيبهم، بعد ذلك يدعون مالكاً في الهلاك يقولون: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:٧٧] يعني: أمتنا {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:٧٧ - ٧٨] فالله يقول: إن الخاسرين الحقيقيين هم الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ألا ذلك هو الخسران المبين، ما هو الخسران؟ قال: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر:١٦] أي: اتقوا عذابي، هذا كلام الله، أخوفكم يا عبادي! من عذابي فاتقوا عذابي، اتقوا عذابي بماذا؟ بفعل طاعة الله وترك معصيته، هذه هي التقوى، اجعل بينك وبين عذاب الله عز وجل وقاية، يعني: حاجزاً ساتراً، وما هذا الواقي لك؟ فعل طاعة الله وترك معصية الله، إذا فعلت الأمر، وتركت النهي، وخضعت للشريعة، وأسلمت نفسك لله، وجعلت بينك وبين عذاب الله وقاية، فلست من أهل هذا الوعيد، ليس لك ظلل، بل أنت في غرف من فوقها غرف مبينة تجري من تحتك الأنهار في جنات النعيم، لماذا؟ لأنك رابح ربحت الدنيا وربحت الآخرة، حتى ولو أنك في الدنيا كنت تمشي حافي القدم، عاري البدن، خاوي البطن، تنام على الرصيف وليس عندك رصيد ولا راتب ولا بيت ولا زوجة، ولكن معك الإيمان والدين والعقيدة والصلة بالله والخوف من الله، أنت رابح.

لكن إذا كان العبد يفقد ويفتقد هذه الأشياء والله لو ملك الدنيا بأسرها، هل سيملك أحد مثل ملك فرعون؟ كان فرعون ملك مصر، وكان يدعي أنه الرب، وكان يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:٢٤] وكان يقول لبني إسرائيل: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} [الزخرف:٥١ - ٥٢] يعني: موسى {وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:٥٢] أين فرعون الآن؟ في خسران، يقول الله فيه: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ * وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر:٤٦ - ٤٨] الكبير والصغير في جهنم.

فمهما كان ملك الإنسان وليس معه إيمان ولا عقيدة فهو خاسر، ومهما كان مال الإنسان وليس معه إيمان، ولا عقيدة، ولا دين فهو خاسر، هل سيجمع أحد أموالاً مثل قارون؟ قارون الذي كانت له مخازن الذهب الأحمر والفضة البيضاء ومفاتيحها لا تحملها العصبة من الرجال، ويقول الله فيه: {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً} [القصص:٧٨] أين هو الآن؟ أين أمواله؟ هل حجزته أمواله من عذاب الله؟ إنه الآن يتجلجل في بطن الأرض إلى يوم القيامة، قال الله: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص:٨١] ابتلعته الأرض، أوحى الله إلى الأرض أن تفتح فتحة بمقدار قصوره وأمواله ومخازنه وأولاده وحشمه وخدمه وما عنده، فانفتحت ثم انطبقت فهو الآن في بطنها إلى يوم القيامة: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:٨١ - ٨٣] اللهم اجعلنا من هؤلاء المتقين الذين اتقوك يا رب! وجعلوا مخافتك بين أعينهم فلم يقدموا على معصيتك ولم يتأخروا عن طاعتك، هؤلاء لهم العلو ولهم السيادة، والفوز والنجاح يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، هنالك يعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:٥٢] هؤلاء خاسرون لماذا؟ لأنهم ضيعوا دين الله، {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:١٥].