للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأمر بتطهير الثياب والغرض منه]

بعد هذا يقول عز وجل: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:٤] وفي هذا إشارة إلى أن الداعية الذي يريد أن يكون مؤثراً في الناس؛ لا بد له أن يبدأ بتطهير نفسه ظاهراً وباطناً، حساً ومعنىً؛ حتى يكون مثالاً لمن يدعوهم إلى الطهارة بكل معانيها، إذ من غير المعقول والمقبول أن تدعو الناس إلى شيء وأنت تخالفه، يقول الشاعر:

يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم

تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا كيما يصح به وأنت سقيم

لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم

وأبلغ من هذا ما جاء في كتاب الله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:٤٤] أي: أين عقولكم؟ كيف تقرءون القرآن وتنسون أنفسكم وتدعون الناس؟ وأبلغ من هذا قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ} [الصف:٢ - ٣] أي: عظم إثماً عند الله: {أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:٣].

ويقول حكاية عن شعيب وهو يخاطب قومه: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:٨٨] يقول: عيب عليَّ أن أقع فيما أنهاكم عنه {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:٨٨] فمن مقتضيات الدعوة ومن لوازمها، أن يبدأ الداعية بنفسه حتى يكون صادقاً مع نفسه ومع الناس، وحتى يكون لكلامه تأثير في الناس؛ إذ أن تأثير الأعمال أبلغ من تأثير الأقوال الناس يقبلون القول لكنهم ينظرون ويلاحقون، هل هذه الأقوال مطبقة عند من يقولها؟ فإن وجدوا تطابقاً بين قوله وفعله ألزمهم بفعله، وإن وجدوا تعارضاً بينما يقول وما يفعل، عرفوا أنه كذاب وأنه ممثل، وبالتالي تزول موعظته من القلوب، وتخرج من الآذان لماذا؟ لأنها لم تخرج من القلب، كما يقولون: كلام القلوب يصل القلوب، وكلام الحناجر لا يتجاوز الآذان.

هذه الآية فيها إشارة إلى أن كل داعية لابد عليه إذا دعا الناس، أن يكون متمثلاً لكل ما يدعو الناس إليه، وإلا أصبح عرضة يوم القيامة للعذاب الشديد، فقد جاء في الصحيح: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أن من الناس من تندلق أقتابه في النار، ويدور حولها كما يدور الحمار برحاه في النار، فيقول له الناس: لقد كنت تأمرنا بالخير وتنهانا عن الشر! فيقول: نعم، كنت آمركم بالخير ولا آتيه، وأنهاكم عن الشر وأقع فيه) فكان هذا مصيره والعياذ بالله! والتطهر هنا يقتضي التطهر المعنوي والتطهر الظاهري، التطهر المعنوي: تطهير القلب من جميع الرذائل والمعاصي، ومن جميع الصفات الذميمة تطهير القلب من الغل والحقد والحسد والكبرياء، وجميع الصفات التي لا تليق بالمؤمن، وتطهير الظاهر أيضاً من النجاسات الحسية؛ بحيث يكون الإنسان طاهراً في الظاهر والباطن.

وهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيء من النجاسات حتى يوجه له هذا الكلام؟! لا، لم يكن فيه شيء صلوات الله وسلامه عليه، فهو خيار من خيار، من بداية حياته، لكن الأمر له ولسائر أمته إلى يوم القيامة، على حد قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ} [النساء:١٣٦] هم آمنوا ويدعوهم الله بلفظ الإيمان ويدعوهم إلى الإيمان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:١٣٦] وعلى حد قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:١] الله يأمره أن يتقي الله، وهل في الدنيا أعظم تقوى من رسول الله؟ لا.

لكن من باب التأكيد على ما يجب أن يكون، وهذه الآية على شاكلتها.

{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:٤] وهو أطهر خلق الله صلوات الله وسلامه عليه، ما اجتمع له أبوان على جريمة، يقول صلى الله عليه وسلم: (لا زال الله ينتقيني من أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى أبي، فلم يلتقِ أبوان لي على فاحشة) كيف وهو المصطفى المختار، سيد ولد آدم، خير من سار على الأرض، وصاحب اللواء يوم العرض، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول من يدخل الجنة؟ اللهم صلِّ وبارك عليه.