[قول العرب: (لا تلد الحية إلا حية)]
من الأمثال أيضاً في لغة العرب قولهم: (لا تلد الحية إلا الحية): الحية لا يأتي ولدها أو ابنتها إلا مثلها حية، لا تتوقع أن يأتيك شيء لطيف من حية.
ولكن القرآن جاء بأبلغ من هذا في قوله تبارك وتعالى على لسان نوح عليه السلام: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح:٢٧] متى قال نوح هذا؟ ما قاله ابتداءً، فنوحٌ مِن أولي العزم، عليه وعلى نبينا وعلى سائر الأنبياء أفضل الصلاة والسلام، وهو من الخمسة أصحاب الفضيلة والمقام الرفيع، دعا إلى الله مدة قدرها (ألف سنة إلا خمسين عاماً) مارَسَ شتى الأساليب، وأخذ بجميع الأنواع: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً} [نوح:٥] كان يدعو ليلاً ونهاراً، نحن كم ندعو؟ إذا ألقى أحدنا درساً في الأسبوع قال: والله إني تعبتُ، وإذا جلس مع شخص يتكلم بكلمتين، قال: الحمد لله نحن نعمل لهذا الدين ليلاً ونهاراً: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً} [نوح:٥ - ٨] دعوة علنية {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} [نوح:٩] دعوة سرية، وبعد هذا العمر الطويل والجهد العظيم يوحي الله إليه ويقول له: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:٣٦] كم عددهم؟ في أصح الروايات أنهم (اثنا عشر) رجلاً، ثمرة تسعمائة وخمسين سنة، يقول الله: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:٤٠] آمن معه اثنا عشر رجلاً، مع هذا العمر الطويل والجهد المكثف، والأساليب المتنوعة، لم يستجيبوا ولم يدعُ نوح عليهم؛ لكن لما أوحى الله إليه أنهم لن يؤمنوا، دعا الله عليهم؛ لأنه لا فائدة، ومادام أنه لن يؤمن أحد منهم، فلماذا يبقون؟! فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح:٢٦] لماذا؟! قال: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} [نوح:٢٧] أحد احتمالين: الأول: إما أن يضلوا هؤلاء (الاثني عشر) الذين هم عندي الآن؛ لأن تأثيرهم سيكون بليغاً، والكثرة تغلب.
الثاني: أنهم إذا لم يضلوا الذين آمنوا؛ فإن أولادهم الذين يأتون منهم فجرة وكفرة: {وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح:٢٧] و (لا تلد الحية إلا الحية) كما تقول العرب، إذاً لا معنى لبقائهم، دمِّرهم يا رب عن بكرة أبيهم فاستجاب الله دعوته.
لماذا استجاب الله دعوة نوح؟ لأنه استنفد جميع جهده، فالإنسان لا يعتمد على دعائه لله وينام! لا.
بل إن نوحاً عَمِلَ وعَمِلَ وعَمِلَ، وعدَّد، ونوَّع، وبذل كل ما عنده، ولما عرف بواسطة الوحي أنه لن يؤمن أحد، إذاً فما معنى أن يبقوا أحياء وهم لم يؤمنوا، فلابد من التدمير، فدعا الله، وقال: ربِّ إنِّي {مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:١٠].
فاستجاب الله له الدعوة، وقال تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} [القمر:١١] * {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً} [القمر:١٢] ليس فقط مكاناً معيناً، بل الأرض كلها تحولت إلى ينابيع وإلى ماء، حتى موقد النار (التنور) الذي يتوقع أن الماء في كل مكان إلا هو ليس فيه ماء بل فيه نار؛ لكن فار التنور، والأرض كلها صارت ماءً {فَالْتَقَى الْمَاءُ} [القمر:١٢] ماء السماء على ماء الأرض {فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:١٢] أي: أُحْكِم من قِبَل الرب تبارك وتعالى، وحَمَله الله عز وجل على السفينة ذات الألواح والدُّسُر أي: المسامير {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:١٤] تجري برعاية الله.
وقد قال الله تبارك وتعالى: {فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [المؤمنون:٢٧] أمره الله أن يحمل فيها أهله ومَن آمن معه، فظن نوح عليه السلام أن الأهلية هنا أهلية النسب، فقال لَمَّا رفض ولدُه أن يركب: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود:٤٥] أنت قلت: يركب أهلي، وهذا ابني أبى أن يركب فلا تغرقه، قال الله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ} [هود:٤٦] انظروا القوة في العبارة، لكن الأنبياء يعرفون الله، فنزَّه الله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} [هود:٤٧] يُنَزِّه الله {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي} [هود:٤٧] لا إله إلا الله! يستغفر ويطلب الرحمة من سؤاله لله أن ينجي ابنه، رغم أنه لم يسأل بدافع الأبوة، ولا الحنان، وإنما بدافع الوعد من الملك الديان، أنه من أهله، فظن أنه يركب باعتباره من الأهل.
فصحح الله نظرة نوح عليه السلام.
وقال: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:٤٦] الأهلية هنا هي: أهلية العقيدة، وأهلية الملة والدين، وما دام كافراً فليس من أهلك.
ففي هذا إشارة إلى أن العلاقة التي تربط الناس بعضهم ببعض هي علاقة العقيدة بالدرجة الأولى، ثم تأتي بعد ذلك الروابط الأخرى؛ لكن إذا انتفت علاقة العقيدة فلا علاقة قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ} [المجادلة:٢٢] لا إله إلا الله!