[المفهوم الصحيح لمعنى الصبر]
بعض الناس كما قلت لكم: يفهم أن الصبر لا يكون إلا على مرض أو مصيبة، وهو فهم خاطئ، فالصبر أولاً هو صبرك على طاعة الله، فإنك وأنت تمارس الطاعة تحتاج إلى قدر كبير من الصبر، فحينما تدعى لصلاة الفجر وأنت نائم، هناك دوافع كثيرة تمنعك من الصلاة، لكنك ترفضها كلها وتصبر، أليس هناك معاناة في تلك الساعة؟ بلى.
هناك معاناة، فيكون النوم كثيراً، والجو بارداً، والفراش دافئاً، والمسجد بعيداً والطريق مظلماً، ولكن كل هذه لا تمنعك من أن تقوم إلى طاعة الله، وهذه تحتاج إلى صبر.
صبرك على طاعة الله في ممارسة الصلاة في المسجد؛ لأن بعض الناس لا يصلي إلا المغرب، أو يوم الجمعة في المسجد.
وباقي الصلوات أين يصليها؟ يصليها في البيت، وهذا أمر لا ينبغي، فإن الله تعالى يقول: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:٤٣] أي: مع المسلمين، ويقول: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:٣٦ - ٣٧].
وأذكر مرةً أن رجلاً سكن في شارعنا هذا ولم يأتِ ليصلي في المسجد منذ أن سكن، فأخبرني جاره وقال لي: إنه يوجد لنا جار لا يصلي.
قلت: إذن نزوره، فذهبنا إليه في بيته بعد صلاة العشاء، وطلبنا منه أن يصلي بنوع من اللطف في بداية الأمر، ولو رفض لأخذنا على يده.
فقال: حسناً: جزاكم الله خيراً وسأصلي إن شاء الله.
وجاء وصلى مرة -أظنها صلاة مغرب أو عشاء- ثم انقطع، فجاءني جاره وقال: إن الرجل صلى مرة ولم نره بعدها.
قلت: إن شاء الله ما دام أنه صلى مرة فأبشر بخير، وسأذهب إليه.
وذهبت إليه مرة ثانية، وقلت: السلام عليكم، يا أخي زرناك ونريدك أن تصلي وأنت مسلم ومؤمن.
قال: صليت يا شيخ! قلت: متى؟ قال: صليت ذاك اليوم الذي أتيتموني فيه.
قلت: وبعدها؟ قال: يكفي، وماذا تريدون بعدها؟ قلت: ليست الصلاة مرة، فالصلاة هي أن تصلي كل يوم خمس مرات.
قال: كل يوم خمس مرات ذهاباً، وخمس مرات إياباً! يعني: في الأسبوع كم مرة؟!! خمس مرات في سبعة أيام أي: خمساً وثلاثين مرة، يعني: في الشهر كم مرة؟ مائة وخمسين مرة ذهاباً، ومائة وخمسين مرة إياباً، يا شيخ! كيف تفعلون ذلك؟ قلت: سبحان الله! ألا تعرف أنت، أأنت مسلم؟ قال: أنا مسلم والحمد لله، لكن أنا أصلي هنا في البيت.
قلت: صلاتك لا تكتمل هنا، زوجتك لها أن تصلي في البيت، أما أنت فلا بد أن تصلي في بيت الله.
قال: حسناً إن شاء الله، وفي اليوم الثاني جاءني الجار الأول وقال: أبشر يا شيخ الرجل انتقل من المكان، فقد رأى أنه يصعب عليه أن يصلي كل يوم خمس مرات، فذهب إلى مكان حيث لا يقول له أحد: صل.
فصبر الإنسان على الصلاة باستمرار علامة على إيمانه، فأنت الآن تذهب وتصلي المغرب، وبعض التجار لا يريد أن يغلق متجره، وأصعب شيء عليه أن يسمع: الله أكبر! فهذا مسكين؛ لأنك حين تغلق متجرك فإنك تقفل التجارة مع الدنيا وتفتح التجارة مع الله، وربنا لم يكلفنا كثيراً، بل كلفنا بخمس صلوات، كل صلاة تستغرق عشر دقائق في خمس مرات، فتقتطع خمسين دقيقة من أربع وعشرين ساعة لله عز وجل، والله يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:٥٦]، فلو نظرنا كم طلب الله منا وكم أعطانا، لكان ما طلب تبارك وتعالى قليلاً بالنسبة لما أعطى، فحين تصلي المغرب ثم تذهب إلى البيت، قد تجد في البيت شاغلاً، إما مباراة كما يتلهى الناس في هذه الأيام، ولا يأتون ليصلوا، لماذا؟ لأنه لا يريد أن تفوته الكرة؛ لأنه وازن بين الكرة وبين الله فوجد أن الكرة في قلبه أحب من الله، حقيقةً! لو قلت له: الله أحب إليك أم الكرة؟ سيقول: الله.
الله أكبر! كيف؟! لكن؛ دعتك الكرة ودعاك الله، فلمن استجبت؟ إن كنت قمت إلى الله فأنت تحب الله، وإن كنت قعدت وأنت تعلم أن الله يدعوك في المسجد ولم تخرج لتصلي حتى لا تفوتك المباراة، أو الشوط، أو الهدف، الله يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:١٦٥]، لكن هؤلاء يحبونهم أعظم من حب الله، والله قال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:١٦٥].
بل إن واحداً من الناس يقول: إنه جلس يصلي في البيت وما ذهب إلى المسجد؛ لأنه خاف أن تفوته المبارة، وبينما هو يصلي والمباراة في التلفاز كان يتلفت فلا يريد أن يفوته شيء، وأخيراً دخل هدف للفريق الذي كان يشجعه، فصاح الجمهور معبراً أنه دخل (جول).
انظروا إلى هذا النصر، إن لم تدخل الكرة فهزيمة، وإن دخلت فهو النصر، فهل هذا هو النصر؟! هذا نصر الأطفال، هل نصر الأمة في هذه المفاهيم الصبيانية؟ إن دخلت الكرة إلى المرمى فما شاء الله! وإن لم تدخل فيحزن لذلك حزناً شديداً، وبعضهم لا يتعشى تلك الليلة ولا يرقد، لماذا؟ لأن الكرة لم تدخل المرمى، ويقول: ليتها دخلت، الله المستعان! إنا لله وإنا إليه راجعون! فأخص أنواع الصبر -أيها الإخوة- صبرك على طاعة الله، تخرج الزكاة وأنت تصبر؛ لأنك تحب المال، وترى الناس أهل الأموال يضعون أموالهم في البنوك ويتقاضون عليها فوائد وأرباحاً، وأنت لا يمكنك أن تأخذ ريالاً حراماً فتصبر، وتحج وتصبر، وتبر والدتك وتصبر، فهذا صبر على طاعة الله.
الصبر الثاني: وهو مهم جداً، ألا وهو صبرك عن معصية الله، فحين ترى الناس يغنون وفي قلبك شوق إلى الغناء، فلا يمنعك إلا أنك تخاف الله، فتحتاج إلى قناطير وأطنان من الصبر حتى تحجزك عن معصية الله، وحين تسير في الشارع فترى المرأة المتبرجة، والشباب يتابعونها وأنت عندك مثل ما عند الشباب الذين يتابعونها، لكنك عندك نور من الله، وخوف ومراقبة لله تعالى؛ فتغض بصرك خوفاً من الله، فهل تستطيع أن تمارس هذا بغير الصبر؟ فهذا هو معنى الصبر، صبرت عن النظر إلى الحرام، وعن أن تسمع الأغاني الحرام، وعن أن تغتاب.
وإن أحداً استثارك وسبك وشتمك وفي إمكانك أن تكيل له الصاع صاعين، وأن ترد عليه بأكثر مما قال، لكنك قلت: خوفي من الله يمنعني من هذا، لا تثريب عليكم اليوم.
فهذا هو الصبر.
يقول الشافعي وقد عوتب في رجل، دخل عليه وسبه في مجلس العلم وأقذع في سبه، فما رد عليه بكلمة واحدة رحمه الله -فهو يمثل العلم- ولما خرج الذي سبه، قيل له: يا إمام! ألا دافعت عن نفسك؟ كيف لا ترد على الأقل دفاعاً عن نفسك؟ فرد عليهم بأبيات من الشعر قائلاً:
قالوا سكت وقد عوتبت قلت لهم إن الجواب لباب الشر مفتاح
والصمت عن جاهل أو أحمق شرفٌ وفيه أيضاً لصون العرض إصلاح
أما ترى الأسد تخشى وهي صامتة والكلب يُخسأ لعمري وهو نباح
يقول أما الكلام فأنا أقدر عليه، ولكن لا أريد أن أنزل إلى مستوى خصمي، ولهذا يقول رب العالمين إن أهل الإيمان يقولون: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:٥٥] ويقول: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:٧٢] يعني: لا يحضرون مجالس الفجور ولا الزور: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:٧٢] فمن يحملهم على هذه الأخلاق؟ إنه الصبر، فالصبر عندهم قيم ومبادئ ومفاهيم وعقائد.
بعض الناس حين يستثار يقول: يا شيخ! ما استطعت أن أصبر، إذن فمتى تكون صابراً؟ أفي الحالات الطبيعية؟ أصلاً لا يبرز دورك في الصبر وضبط النفس إلا عند الاستثارة، أما في الحالة الطبيعية فكلنا صابرون، وحين يكون مزاجنا هادئاً فكلنا حلماء، وعلماء، وكرماء.
لكن متى يبرز الحليم؟ عندما يستثار المرء، فيحجم عن الرد فهذا هو الصابر، يقول عليه الصلاة والسلام: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى)، لما مرَّ على امرأة تبكي على ولد لها مات، قال لها: (اصبري واحتسبيه عند الله، قالت: إليك عني -ما عرفت أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم- إنه ولدي وليس ولدك -وهي تبكي بحرارة- فتركها وذهب، فجاء الناس إليها وقالوا: هذا رسول الله -كيف تكلمينه هكذا- فلحقته وقالت: يا رسول الله! ما عرفت أنك أنت، فقال لها: إنما الصبر عند الصدمة الأولى).
فالصبر مع أول الصدمة، أما بعدها فستصبرين رغماً عنك.
لكن متى يكون الصبر؟ عندما يصاب الإنسان في أول الأمر، فهنا الصبر عظيم ومفاهيمه كثيرة.