للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[صبر إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل عليهما السلام]

- أيضاً: صبر إبراهيم عليه السلام وهو يعاني من التكذيب والرد والرفض والضرب والإبعاد والإخراج والإحراق عن طريق الكيد الكبير: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء:٦٨].

وبدلاً من أن يحرقوه بحزمة من الحطب أو بعود كبريت وينتهي ويموت، لا.

جمعوا من الحطب مثل الجبال الرواسي، وقالوا للنساء: أي امرأة لا تشارك في حمل الحطب عليه سوف ينقطع نسلها ولن يأتي لها أولاد، فجاء النساء والرجال يحملون الحطب مثل الجبال، ثم أشعلوا النيران، ولما أشعلوها كانت تشوي الطير في كبد السماء من شدة الحرارة، ولما أرادوا أن يحرقوه عجزوا أين يضعونه، فهم لا يستطيعون أن يقربوا من النار؛ لأن وهجها ولهيبها يطردهم على مسافة الأمتار البعيدة، وهم لا يريدون أن يضعوا له طريق في طرف النار وإنما يريدونه في وسط النار.

{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ} [الأنبياء:٦٨] فماذا صنعوا؟ اخترعوا المنجنيق وأتوا به ثم كتفوه وربطوه ثم قذفوه بالمنجنيق وضربوا به وسط النار، وهو صابر يقول: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:١٧٣] هذه الكلمة قالها إبراهيم وهو يلقى في النار، وقالها النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعذب ويسجن في شعب أبي طالب، قال الله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:١٧٣ - ١٧٤].

فإبراهيم عليه السلام صبر، ثم بعد ذلك صبر على أمر الله أن يخرج سراً بزوجته هاجر وابنه إسماعيل ابن ليس كالأبناء، جاءه على كبر، ثم من خيرة الرجال، وجعل يسافر به من بيت المقدس إلى أن يضعه في مكة المكرمة ويتركه لوحده، من يصبر على هذا؟ صعب جداً أن يترك الإنسان ولده في وادٍ غير ذي زرع، ويقول بعدها: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:٣٧].

ولما ولى بدأت عواطف المرأة تضغط عليه وتقول: يا إبراهيم! أفي مثل هذا الوضع تتركنا؟ لمن تتركنا يا إبراهيم؟ وهو يسكت لا يرد عليها بكلمة خشية أن يعتذر لها أو يبرر لها موقفه، وينفذ أمر الله وهو ساكت، بدون أي مراجعة، فعرفت أن هناك سراً وقالت له: آلله أمرك بهذا؟ أي: تركتنا هنا بأمر الله؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يضيعنا.

وفعلاً لم يضيعهم ربي، رغم أنه تركهم في (وادٍ غير ذي زرع)، حجارة صلداء، الموت الأحمر يشب منها، لا يوجد ماء ولا مرعى ولا أكل، حتى الطير لا يوجد في السماء.

وعندما انتهى الماء الذي في الدلو الذي معها -الذي فيه الماء- وبدأ الولد يتلهب عطشاً وانفجر قلبه من العطش، وبكى وصاح، فقامت تبحث ولم تقطع الأمل في الله، تصعد إلى المروة ثم تنزل إلى الصفا، وإذا نزلت بطن الوادي أسرعت وهرولت ثم تعود، وتطلع وتنزل، وتدعو الله، وإذا بها ترى الولد والماء من بين يديه ينبع ويمشي فتزمه وترده.

يقول عليه الصلاة والسلام: (رحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم لكانت عيناً معيناً) لكانت نهراً يجري ويغرق الدنيا كلها، لكنها زمتها وبقيت، وهاهي الآن تروي الملايين من البشر ولا ينقص فيها (سنتيمتراً) واحداً بأمر الله، من أين أتت؟ وأين البحار التي تنبع منها؟ من وسط الجبال الصلد، لا إله إلا الله! فهذا صبر إبراهيم.

ثم صبر إبراهيم على ذبح ولده، حيث جاءته الرؤيا -ورؤيا الأنبياء وحي- أن يذبح ولده، والولد لا يُذبح، لكنه كان يحبه، يقول ابن القيم: إن إبراهيم كان يُحب إسماعيل حباً عميقاً لطاعته، ولمشاركته له في بناء الكعبة، ولبره، ولنبوته، ولرجولته وفتوته.

حتى أنه أمره أن يطلق امرأته فما قال: لا.

والله ما أقدر على أن أطلقها، والنساء غاليات وأنت لا عقل عندك، لا.

بل مباشرة، وبكلمة واحدة، جاء يزورهم من بيت المقدس ولما دخل عليهم ودق الباب، أجابت المرأة، فقال: كيف أنتم؟ -وكانوا في أحسن حال- قالت: في شر حال -لأن بعض النساء حتى ولو كنت في أحسن حال، تجعل حسن الحال شر حال؛ لأن قلبها شرير والعياذ بالله- قال: إذا جاء زوجك، فقولي له: أتى شيخ إلى هنا وقال: غيِّر عتبة دارك.

المرأة يعبر عنها بعتبة الدار؛ لأنها أول ما تنظر إذا دخلت البيت، وفي عتبة الباب تبدأ المرأة تدعو عليك وتنكبك على رأسك، وإذا كانت العتبة سهلة فكل يوم تستقبلك وتفتح قلبك وتبش في وجهك، وتجعل حياتك كلها أنس، ولهذا فالمرأة عتبة؛ إما عتبةً سيئةً أو عتبةً حسنةً، قال: غيِّر العتبة -هذه العتبة ليست حسنة- فلما عاد من الصيد، قالت: جاء شيخ يقول: غيِّر عتبة الدار، فقال: اذهبي إلى أهلك، فطردها بدون مراجعة.

وبقي فترة، ثم تزوج بأخرى، وكانوا في وقت شدة وجوع وقحط وليس عندهم شيء؛ لكن هذه المرأة صاحبة دين وخير، فجاء إبراهيم فقال: أين زوجك؟ قالت: في الصيد.

قال: كيف حالكم؟ قالت: في أحسن حال.

انظر إلى بعض الزوجات عندما تدخل عليها وليس عندها في البيت شيء، ولكن عندها إيمان، ومعك ضيف فتدخل وتقول: عندكم عشاء؟ تقول: نعم.

كل خير موجود، وهي ليس عندها شيء، ولكن تريد أن تفتح قلبك، هذه الكلمة كأنها عشّت الضيف، وبعد ما تقول لك: نعم أبشرك، فكل شيء جيد، ثم تدعوك بعد وقت، وتقول: ما رأيك أن تأتي لنا بخبز ولبن وهكذا عن طريق المشاورة، فأنت رأساً تقول: نعم.

نأتي بكذا وكذا؛ لأنها قد فتحت قلبك، لكن بعض النساء قد تجد بيتها مليئاً بالخيرات، وإذا دخل زوجها بضيف واحد فقط، قالت: لماذا تأتي به؟ تريده أن يأكل عشانا، تريد أن تظهر أمام الناس، اذهب وأحضر أكلاً، والله لا يذوق عندنا لقمة، أعوذ بالله من بعض النساء! ما هذه الأخلاق؟! فهذه المرأة الصالحة، قالت له: نعم نحن في أحسن حال، فقال لها: قولي لزوجك أن يثبت عتبة داره؛ أي: لا يترك هذه المرأة.

ولما بلغ معه السعي وأصبح رجلاً: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:١٠٢] يقول المفسرون: إن إبراهيم لم يخير إسماعيل -يعني: لم يقل له: ما رأيك نذبحك أم لا؟ - لا.

لم يقل: انظر ما هو رأيك؟ وإنما قال: {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:١٠٢] أي: كيف ننفذ أمر الله، تريد أن أذبحك وأنت قائم، أو أذبحك وأنت جالس، أو أذبحك وأنت على جنبك، أو أذبحك وأنت على بطنك؟ وتريد أن أذبحك بالسكين، أو أذبحك بالرمح؟ أي وسيلة المهم ماذا ترى في تنفيذ أمر الله؟ لكنه ليس رأياً: تنفذ أم لا، فقال إسماعيل عليه الصلاة والسلام: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:١٠٢] لا إله إلا الله! ما أعظم هذا الموقف أيها الإخوة! الولد يستسلم، والأب يستسلم، ويخضعون لأمر الله، وقد كان هذا رؤيا لكن قوة الإيمان: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:١٠٣] تله للجبين: أي وضعه على الأرض وأهوى على حلقه بالسكين من طريق جبينه، فنظر إلى عينيه والعينين تنظر إلى الولد، والولد ينظر إلى السكين، وكلاهما مستسلمان لله، فتعبر الرحمة الموجودة في قلبه بولده، أن السكين لا تذبح، ولا تقطع؛ لأن الله عز وجل سلبها القدرة، لأن الذي أعطاها القدرة سلبها القدرة، والذي أعطى النار القدرة سلبها القدرة.

فهو يخلق ما يشاء ويختار، فيذبح بالسكين فلا تقطع، فيقول الولد لأبيه: كبني على وجهي لكي لا تنظر إلى حتى تنفذ أمر ربي عز وجل، وبينما هو في هذا الوضع وإذا بالفرج يأتي من الله عز وجل قال: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:١٠٤ - ١٠٧] هذا صبر الأنبياء وهم أفضل خلق الله، وكذلك غيرهم من الصالحين، والله يقول: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:٣٥] في ميادين الابتلاءات العادية.