التعلق الأول: حين يكون الإنسان جنيناً في بطن أمه: فهناك للروح علاقة بالجسد تختلف عن علاقتها بالجسد في الأرض، فالروح هناك موجودة؛ تلمسون الطفل إذا نُفخ فيه الروح بعد (١٢٠) يوماً في أول الشهر الخامس تسمع أمه حركة، ويمكن أن تضع يدك على بطن زوجتك فتسمع ركضة، أو دقة! هذه حياة الطفل، الروح موجودة الآن فيه، لكن علاقتها بالجنين في البطن تختلف عن علاقتها بالإنسان في الأرض، فالجنين في البطن يأكل من غير فمه؛ يأكل من سرته، ويتنفس من غير أنفه، ويتغذى من غذاء أمه، وبعد ذلك يعيش بعينين وليس هناك نور، ويعيش بقدمين وليس هناك أرض يسير عليها، وله يدين لا يستعملها، عالم الجنين في البطن يختلف كل الاختلاف عن عالم الإنسان في الأرض، وبعد ذلك من يعلمه هناك في تلك الظلمات؟! ظلمات ثلاث: ظلمة الرحم، والمشيمة، والبطن، ظلمات ثلاث، قال الله:{فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ}[الزمر:٦] لكن الله يعلم حاله في تلك الظلمات: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ}[النجم:٣٢] ألصق الناس بك هي أمك، تحملك في بطنها، وتتغذى على غذائها، وتعيش في أحشائها، وهي لا تعرف عنك شيئاً، ولو سألت الأم: الولد نائم أو يقظان؟ لقالت: لا أعلم، الولد شبعان أو جائع؟! لا تعلم، الولد ذكر أو أنثى؟! لا تعلم، الولد متعاف أو مريض؟! لا تعلم، ضعيف أو سمين؟! لا تعلم لا تعرف عنه شيئاً! لكن من الذي يعلم؟ الله.
لا إله إلا هو! يعلمك ويعرف حقيقة أمرك وأنت في تلك اللحظات، وقد أشكل بعض الأمر على بعض الناس فيما يتعلق بقول الله عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}[لقمان:٣٤] هذه خمس، وفي الحديث:(خمس من الغيب لا يعلمهن إلا الله: علم الساعة -لا يعرفها أحد- وتنزيل الغيث) وتنزيل الغيث، لا يعلم أحد متى ينزل الغيث، ولهذا التنبؤات الجوية التابعة للأرصاد التي تسمعونها كل يوم: هناك سحب عميقة جاءت ومنخفض جوي وارتفاع ولكن لا ينزل شيء، لماذا لم ينزل هذا المنخفض؟ تأتي السحب إلى أبها وتذهب وتنزل في الخميس، لو أن السحب على هواها لكانت كلما طلعت من البحر نزلت على أبها، لم لا؟ لماذا تذهب تنزل وتأخذ مشوار إلى هناك؟ من الذي يعطيها أجرة إلى الخميس؟ ماذا بها تترك أهل أبها بدون ماء وتذهب على أهل تهامة وتنزل لهم المطر؟ من ينزل هذا الغيث؟ إنه الله! يقول الله تعالى:{يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ}[الشورى:٢٧] لا تنزل قطرة إلا بأمر من الله عز وجل، ولها ملك موكل بها -وظيفته هذه الأمطار- اسمه: ميكائيل، الموكل بتوزيع الأمطار على البشر، يحجب عن هؤلاء وينزل على هؤلاء، ينزل المطر رحمة وأحياناً عذاباً، ففي الحديث الصحيح:(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في يوم الجمعة -وهذه من معجزاته- فلما كان في الخطبة دخل رجل من باب المسجد، فقال: يا رسول الله! هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله لنا، فرفع يديه صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا وأغثنا) يقول راوي الحديث: والله ما في المدينة سحابة -والمدينة بعيدة عن السحب، وليست بجانب البحر- يقول: وإذا بتلك السحابة كالترس تأتي وتنتشر حتى تخيم على المدينة بأسرها، ثم تمطر، فوالله ما خرجنا من المسجد حتى سالت الشعاب والوديان، ثم استمرت هذه السحابة أسبوعاً كاملاً إلى الجمعة الآتية، ولما كان يخطب في الجمعة الثانية وإذا بذلك الرجل يقول: يا رسول الله! هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله أن يرفع عنا، فقال عليه الصلاة والسلام -في أدب النبوة، وجمال العبارة-: (اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والضراب وبطون الأودية ومنابت الشجر) صلوات الله وسلامه عليه، هذا من إعجازه صلى الله عليه وسلم أن استجاب الله له هذا الأمر، فالأمطار تنزل بأمر من الله تبارك وتعالى، وهو الذي يعلمها {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ}[لقمان:٣٤] فالإشكال حصل هنا عند الناس: القرآن يقول العلماء فيه: إنه قطعي الثبوت، القرآن في مجمله من ألفه إلى يائه -من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس- قطعي الثبوت؛ يعني: ليس فيه حرف زائد عما أنزل الله، ولا حرف ناقص على ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن في آياته هذه دلالات قطعية وظنية أي: فيه آيات قطعية الثبوت وفيه قطعية الدلالة، وفيه آيات قطعية الثبوت لكنها ظنية الدلالة، من يعرف القطعي والظني في الدلالات؟ العلماء هم الذين يعلمونه، قال الله تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}[آل عمران:٧] فالعلماء العارفون بالله يعرفون دلالات الكتاب مما علمهم الله وعلمهم رسوله صلى الله عليه وسلم، هذه الآية يقول الله عز وجل:{وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ}[لقمان:٣٤] حملوها الناس على غير مراد الله منها حملاً كاملاً، العلم هنا الذي قاله الله تعالى: علم كامل شامل، يعلم ما في الأرحام، ما قال الله: ويعلم نوعية الجنين الذي في الأرحام، حتى نقول: إذا ثبت بالعلم وبالأشعة أنهم عرفوا أنه ذكر أو أنثى، قلنا: والله قد قال: {يَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ}[لقمان:٣٤] لا.
العلم هنا ممكن، لماذا؟ قالوا: لأن الله تعالى يقول: {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ}[عبس:١٩ - ٢١] والفاء تفيد التعقيب الفوري، وثم: تفيد الترتيب على التراخي، تقول: دخل محمد فعلي، يعني: دخل علي بعد محمد مباشرة، لكن تقول: دخل محمد فعليّ ثم جاء سعيد، يعني: دخل محمد وجاء علي بعده وبعد ذلك جاء سعيد بعد ساعة أو ساعتين أو فترة من الزمن، فهنا يقول الله عز وجل:{مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ}[عبس:١٩] يعني: بعد خلقه نطفة حصل له التقدير، في لحظة التقدير لا يستطيع أن يعرف نوعية هذا المولود أحد، حتى الملائكة لا تعرف، لكن بعد التقدير وبعد مضي (١٢٠) يوماً يؤمر الملك بنفخ الروح، وكتابة الأجل والرزق ونوعية الذكر والأنثى، وفي هذه اللحظات لم يعد العلم علماً خاصاً بالله، فقد انتقل من العلم الخاص بالله إلى علم تعلمه الملائكة، فالملائكة الآن أصبحت في البطن، أي: أن الملائكة التي أمرت بالنفخ في الروح تعرف أن هذا الجنين ذكراً أو أنثى، وبإمكان الناس بعد أن عرفت الملائكة أن يعرفوا أنه ذكر أو أنثى قبل أن يخرج من الرحم، فبالإمكان أن نطلع عليه عن طريق الأشعة، أو نجري عملية للمرأة أو نخرجه بعملية قيصرية ونعرف أولد أم أنثى هذا ممكن، لكن في اللحظة الأولى -لحظة التقدير- لا يمكن لأحد أن يعرفه إلا الله؛ لأن الإنسان يكون بكل صفاته الوراثية وجيناته موجود في رأس الحيوان المنوي؛ والحيوان المنوي: حيوان لا يرى بالعين المجردة، لا يرى إلا بالمجهر المكبر الإلكتروني، وإذا وضعت قطعة من المني على عدسة المجهر فسترى الملايين من الحيوانات المنوية، ويقول العلماء: إن ما يدفقه الرجل من حيوانات منوية في الدفقة الواحدة: أربعمائة مليون حيوان منوي، أي: إذا أتى الرجل زوجته؛ فإنه يدفق في كل دفقه من مائة إلى أربعمائة مليون حيوان منوي، تخرج هذه الحيوانات المنوية وتمر في الرحم ولا يصل إلى قناة فالوب في أعلى القناة التي فيها بويضة المرأة إلا حيوان واحد، ويموت الباقي، فالذي يسبق تحتضنه البويضة وتقفل على نفسها ويبقى الباقون يدورون يريدون طريقاً إلى البويضة فلا يجدون ثم يموتون والحياة هنا للأقوى! هذا الحيوان المنوي الصغير الذي لا يرى بالعين المجردة في رأسه جميع الجينات والخصائص الوراثية! الإنسان أنت وأنا في حيوان منوي صغير لا يرى بالعين المجردة، وما يجري بعد ذلك من مراحل ما هي إلا عملية تطويرية في كونك -أيها الإنسان- تكون بعد ذلك أطواراً، يقول الله تعالى:{مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً}[نوح:١٣] * {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً}[نوح:١٤] أطواراً من الترتيبات؛ من نطفة إلى صاحب عضلات وقوة.
{وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ}[لقمان:٣٤] فالعلم المقصود هنا ليس علم نوعية وإنما علم كامل شامل في مرحلة التقدير، وإذا عرف الناس ذلك في هذا فليس بمعجز، أي: ليس بغريب؛ لأنه ليس مما اختص الله بعلمه.
{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً}[لقمان:٣٤] هذه لا تزال وستظل، ولن يعرف أحد ماذا يكسب غداً إلا الله، لا تعرف ماذا يصير لك غداً، لا تعلم أبداً {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}[لقمان:٣٤] تجد الرجل يعيش في أرضٍِ حتى آخر لحظة ثم يذهب إلى مكان ويموت فيه.
فالذي أعرف أن رجلاً كان يعيش معنا في أبها هنا رحمة الله تعالى عليه لا يحب السفر، ويكره الأسفار ولم يُعرف أنه خرج من أبها في حياته قط، حتى خميس مشيط لا يعرفها، وكان يبيع ويشتري في دكانه وكلما سافر تجار إلى أبها أرسل معهم طلباته ويكتب قوائم، يقول: أريد كذا وكذا وكذا تعال معنا، قال: لا أريد السفر، وبعدها جاءت فريضة الحج، قالوا له: حج، قال: الحج هذه السنة زحمة، والسنة الثانية قال: زحمة، المهم أنه بلغ من العمر عتياً -وبلغ الستين والسبعين سنة- ولم يحج، لا يستطيع أن يركب أو يسافر، وأ