[الإنسان وصراعه في الحياة]
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الأحبة في الله! يعيش الإنسان في هذه الحياة في صراع دائم، وفي معركة مستمرة، وفي معاناة، وفي تعب، يقول ربنا عز وجل: {يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:٦].
ويقول عز وجل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:٤] أي: تعب، ونكد، ومعاناة.
وهذا الصراع والمعترك هو مقتضى الابتلاء الذي يمحص الله به بين المؤمنين والمنافقين، وبين الصادقين والكاذبين، وبين المدعين للدعوة التي لا تثبتها أدلة ولا براهين، وبين الصادقين الذين يدعون ويبرهنون على صدق دعواهم، فجاءت هذه الامتحانات، وجاء هذا الصراع، وجاءت هذه المعارك.
وفَهْمُ الإنسان لهذه الحقائق يجعله يستشعر أهمية دوره في الصراع، ويهيئ نفسه للمواجهة، ويعرف أنه مطلوب منه ألا يقف مكتوف الأيدي أمام أولئك الأعداء، بل ينبغي له أن يواجه ويثبت ويصبر ويرابط، حتى تأتي ساعة النصر وهي ساعة دخول الجنة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المنتصرين فيها.
يقول ربنا عز وجل: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:١٨٥] هذا هو الفوز، وهذا هو النصر: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:١٨٥] إذا دعيت باسمك، ويسمعك أهل الموقف، ويقال لك: ألا إن فلان بن فلان قد سَعُد سعادة لا يشقى بعدها أبداً؛ سيَبْيَضُّ وجهُك؛ وتأخذ كتابك بيمينك؛ وتباهي بهذه الشهادة الربانية وبهذا الكتاب المليء بالحسنات، وتقول لأهل الموقف: {هَاؤُمُ اقْرَءوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:١٩ - ٢٠] ويقول الله عز وجل: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة:٢١] بدلاً عن عيشة الدنيا التي هي عيشة تعب ومعاناة ومكابدة وبلاء، وعيشة صبر على طاعة الله وعن معصية الله وعلى أقدار الله، يقول الله مخبراً عن أهل الجنة: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:٢٦ - ٢٨].
فأهل الإيمان وأهل التصديق الذين خافوا الله في هذه الحياة، والذين رابطوا على حدود الشرع، والذين واجهوا الأعداء المتربصين بالنفس البشرية، وقاموا بالمرابطة عليها حتى ماتوا، يوم القيامة توضع عنهم هذه الأحمال، ويقول الإنسان: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:٢٠].
فيقول الله: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:٢١ - ٢٤]، جزاءُ بدلٍ وتعويض، أتضيع أعمالك هنا؟! أتريدها أن تضيع؟! لا والله، وذاك المضيِّع المتسيِّب، الضال الضائع الذي انغمس في شهواته وسيطرت عليه شبهاته هل يضيع؟! لا، لا بد له من يوم، يقول الله عز وجل: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الجاثية:٢١ - ٢٢].
فهذه المعارك الضارية والصراعات الطاحنة تدور في عدة جبهات مع النفس والإنسان؛ ولكن أبرز هذه المعارك تدور مع أربعة أعداء، جاء خبرهم في كتاب الله عز وجل، وإلا فالأعداء كثيرون؛ لكنهم يندرجون في النهاية تحت هؤلاء الأعداء الأربعة: