أيها الإخوة: إن على طالب العلم أن يأخذ العلم بنية العمل، وبنية القربى إلى الله، والنجاة من عذاب الله، وبنية أن يعبد الله بهذا العلم، وإلا فإن (مَن طلب العلم ليماري به السفهاء، أو ليجاري به العلماء، أو ليبتغي به عرضاً من الدنيا، لم يرح رائحة الجنة) -نعوذ بالله أن نكون من هؤلاء- ليماري به السفهاء، ليجاري به العلماء، ليبتغي به عرضاً من الدنيا، يريد وظيفة فقط، لم يرح رائحة الجنة، أي: يلقى هذه؛ لكن ليس له هناك شيء؛ لأنه لم يعمل من أجل الجنة، ولم يطلب العلم من أجل الجنة، بل طلب العلم من أجل أن يأخذ شهادة فأخذ الشهادة وانتهى الأمر؛ لكنه لو طلب العلم من أجل الله، ومن أجل أن يعرف طريق الله، ولكي يعبد الله على بصيرة وعلى نور، فقرأ كتاب الله، وقرأ سنة رسول الله، ولم يُباهِ، ولم يُجارِ، ولم يُمارِ، ولم يستعلِ، ولم يتكبر، وإنما تواضع، وهذا شأن علماء السلف رحمهم الله، كانوا قمماً في العلم، ومع هذا فهم متواضعون إلى أبعد درجات التواضع، وبعض الناس تجده صفراً في العلم؛ ولكنه مغرور، يظن أنه على شيء، وهو ليس على شيء، وإن علم فإنما يعلم نصوصاً فقط، وهذه النصوص ليست هي العلم، العلم هو العمل، والخشية، والخوف، العلم الرغبة فيما عند الله، أما أن تكون عالماً ولا تخاف الله، عالماً وتجترئ على حدود الله، عالماً وتضيع أوامر الله؟! فلا.
جاءني أحد الإخوة يوماً من الأيام وأنا في أبها، وكان مؤذناً في أحد المساجد، وهو رجلٌ أُمِّيٌّ لا يقرأ ولا يكتب؛ لكنه يخاف الله، عنده في قلبه خوف من الله، جاءني وهو يشتعل غضباً، قال: يا شيخ! كيف هذا الكلام؟! قلت: نعم.
ماذا هناك؟! قال: أنا مؤذن المسجد الفلاني، وحول المسجد عمارة فيها أربع شقق، يسكنها أربعة (دكاترة) يقول: منذ أن سكنوا إلى الآن لم يدخلوا المسجد، يقول: وكنتُ أتصور عندما أسمع مَن يقول: يا (دكتور)! كنتُ أحسب أنهم (دكاترة) في (المستشفى)، فقلت: هذا ليس غريباً؛ لكني الآن علمتُ أنهم (دكاترة) في كلية الشريعة، يقول: من حين سكنوا إلى نصف السنة ما دخلوا المسجد، أحدهم يدرس تفسيراً، والثاني يدرس الفقه المقارن، والثالث يدرس الأصول، والرابع يدرس اللغة العربية، (دكاترة) يدرسون القضاة ويخرِّجون القضاة؛ لكنهم لا يصلون في المسجد، إذاًَ: فما قيمة العلم عند هؤلاء؟! {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً}[الجمعة:٥] هذا المثل لا يحتاج توضيحاً.
العلم: العمل، والعلم: الخشية، يقول الشاعر:
إذا لم تستفد بالعلم هدياً فليتك ثم ليتك ما علمتا
العلم يرفعك إلى الله، ويقربك إلى طاعة الله؛ لكنك إذا كنت تتعلم وتزداد ضلالاً وبُعداً عن الله، فإن هذا مصيبة، والعياذ بالله! فهذا المثال الثاني للذين يتعلمون ولا يعملون، وهذا المثال سيئ، كمثل الحمار، والحمار -والعياذ بالله- من الحيوانات التي تضرب بها الأمثال في البلادة والجهل، وأيضاً- فيه خصلة ذميمة وهي نكارة الصوت، يقول الله عز وجل:{إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}[لقمان:١٩] وفعلاً أي صوت من البهائم تسمعه لا تشمئز منه؛ لكن دع حماراً ينهق بجانبك، يكاد يفجر أذنك، ثم إنه صوت قبيح وخبيث، فكذلك من يحمل العلم ولا يعمل به مثل الحمار، وإذا تكلم فمثل نهيق الحمار، يضرب به المثل في كراهية الصوت، والعياذ بالله! وأيضاً يضرب به المثل في الجهل، إذا رأوا جاهلاً قالوا: أجهل من حمار أهله.
ويقال في المثل العربي:(أخزى الله الحمار، مالاً لا يُزَكَّى ولا يُذَكَّى) الذي عنده حمار، لا هو يُذَكَّى إذا مات، ولا عليه زكاة، فلا مصلحة منه لا في حياته ولا في موته، ويقولون: أخزى الله الحمار مالاً لا يُزَكَّى -تُدْفَع عليه زكاة- ولا يُذَكَّى -فيؤكل- وإنما ليس منه مصلحة، لكنه يزكى في حالة واحدة وهي: إذا كان عرضاً من عروض التجارة، إذا كان هناك شخص يتاجر في الحمير فإن عليه إخراج زكاتها؛ لأن عروض التجارة كلها تشملها الزكاة، لكن لو لم يكن لديه تجارة وإنما يهوى جمع الحمير، وعنده (مائة) حمار فليس فيها زكاة، فيقولون:(أخزى الله الحمار مالاً لا يُزَكَّى ولا يُذَكَّى).
وأيضاً يقال فيه: إنه من ضلاله عنده قياس؛ لكنه يستعمل القياس بطريق الجهل، ولذا إذا رفعت يدك لضربه يخفض برأسه، يحسب أن يدك سوطاً، يقيس كل شيء عنده بالسوط؛ لأنه يخاف من العصا، ويخاف من الضرب، فأي شيء ترفعه، فإنه يظن أنه سوط لضلاله وجهله.
فما ضرب الله عز وجل بهذا المثل لمن لا يعمل إلا على سبيل التبكيت، وعلى سبيل التشنيع والتنفير، حتى لا يصير الإنسان مثل الحمار، حينما يكون له علم ولا يعمل به.