[خوف المؤمن من الله في الدنيا جعله يأمن يوم الفزع الأكبر]
السر في هذا الأمن الذي يشمل الله به عباده السعداء والأتقياء: أن قلوبهم كانت في الدنيا عامرة بالخوف من الله، فكانوا يراقبون الله في كل تصرفاتهم، كانت مراقبة الله بين أعينهم، ولا يجد صعوبة في هذا، تُتاح له الملذات والشهوات؛ ولكن الخوف من الله يقف حاجزاً بينه وبين معاصي الله.
قد يخلو بامرأة، ونفسه تدعوه، وتركيبته الجنسية تدعوه؛ ولكن خوفه يحجزه، ولهذا جاء من ضمن السبعة: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال -ما الذي منعه؟! - فقال: إني أخاف الله) فهذا الخوف من الله كان يعمر قلوب أهل الإيمان، يموت جوعاً ولا يمكن أن يأكل حراماً.
هناك شخص من الشباب يخبرني بهذه القصة، مجلة إسلامية اسمها: التربية الإسلامية، وقد قرأتها بنفسي، وهي موجودة لديَّ، والقصة مفادها: أن شاباً كان يدرس في القاهرة في الأزهر، وكان يسكن في مدينة البعوث الإسلامية التي يسكنها الغرباء الذين يأتون من شتى أقطار الأرض -ومرَّ هذا قبل أربعين سنة أو ثلاثين- وكان هذا الشخص رجلاً تقياً ولكنه فقير لا يملك شيئاً، وضاقت به الأرض حتى مرت عليه أيام وليالٍ وهو لا يستطيع أن يحصل على لقمة العيش، فخرج يومًا من الأيام من مسكنه قاصداً الأزهر لطلب العلم قبل صلاة العصر، وفي الطريق شَمَّ وهو يسير من أحد البيوت رائحةََ طعام شهي يقطع القلوب، وهو سيموت جوعاً، فطرق الباب يريد أن يطلب منهم فلم يستجب أحد، فدفع الباب، فانفتح، فدخل فناء البيت، ثم دعا، فلم يستجب له أحد، فطرق الباب الداخلي، ثم دفعه فانفتح الباب، ونادى، فلم يستجب له أحد، فشاهد أمامه صحفة فيها نوع من الطعام الذي شم رائحته وليس عنده أحد، فدفعه الجوع والحاجة والاضطرار إلى أن يدخل ويأكل وحده من الأكل، وكان الطعام كُبَّة من العيش والبطاطس؛ محشية باللحم ومقلية، كانت رائحتها شهية جداً، أشبه بالسنبوسة، فأخذ واحدة، وعندما حملها وأراد أن يأكلها نظر إليها، فجاءه الخوف من الله فقال: لقمة تأكلها الآن وهي حرام، ولا تدري مَن صاحبها! لا.
وبعد أن أرجعها جاءه الجوع والحاجة، سيموت، فأخذها، فلما أخذها جاءه الخوف، وبقي في صراع وتنازع، النفس تقول: كُلْ، والقلب والعقل يقولان: لا تأكل.
أخيراً انتصر على نفسه ووضعها، وخرج من أجل الله، ودخل المسجد، وصلَّى العصر، وجلس في مجلس الشيخ، وبينما هم جلوس إذا بتلك المرأة تدخل المسجد وتقف على باب المسجد، وتطلب الشيخ أن يأتيها، فجاءها الشيخ، فقالت له: يا شيخ! أنا امرأة أرملة؛ توفي زوجي منذ سنوات، وترك لنا مالاً وفيراً، وخلَّف بنتاً، والآن بلغت سن الزواج، وأوصَى أبوها أَلا أزوجها إلا برجل يخاف الله عزَّ وجلَّ، فأريد أن تختار لي مِن طلابك هؤلاء مَن تعرف فيه وفي قلبه مخافة الله.
قال: حسناً! فرجع الشيخ ونظر في الشباب وهم جلوس كلهم في الحلقة، وتقع عينه على ذلك الرجل التقي -لأن التقوى لها آثار في الوجه وفي كل شيء- فدعاه، وأخذه إلى خارج الحلقة وقال له: تريد الزواج؟ قال: يا شيخ! منذ ثلاثة أيام والله ما ذقتُ طعم العيش، وتريدني أن أتزوج؟! ليس عندي شيء يا شيخ! قال له: لا شأن لك، كل شيء موجود.
قال: إذا كان كل شيء موجود فليس عندي مانع.
فأخذه وجاء به إليها، قال: هذا أرضاه لابنتكِ زوجاً؛ لأنه تقي يخاف الله.
قالت: أنا أعددتُ طعاماً جاهزاً، أريدك أن تأتي أنتَ وطلابُك وهُوَ لنأكل من هذا الطعام، وتكتب العقد.
فأخذتِ الشيخَ والطلابَ وهذا الطالبَ وهي تمشي أمامهم، ومشت بهم من طريق إلى طريق إلى أن أدخلتهم في ذلك البيت، وتأتي بالصَّحفة وتضعها أمامهم، ويشاء الله أن تكون الصَّحفة والجهة التي فيها تلك اللقمة من عند ذلك الطالب، ويمد يده عليها ويأكلها حلالاً، ومعها زوجة؛ ولو أنه أكلها لَمَنَعَتْه تلك من نعمة الدنيا، بل ربما تمنعه من نعمة الآخرة.
فالذين يخافون الله عزَّ وجلَّ يجدون صعوبة، فأنت إذا كنت موظفاً وبجانبك موظف آخر، وتراه يسيّر عمله بالرشوة، ويربح في اليوم ما توفره أنت في سنة؛ ولكنك لا ترضى أن تأكل ريالاً حراماً، تجد فيه صعوبة عليك؛ لكن اصبر، هذا يأكل حراماً، يأكل ناراً حمراء، يأكل لعنة الله: (لعن الله الراشي والمرتشي والرائش بينهما) أما والله إن ريالاً حلالاً عندك أعظم من مليون، بل أعظم من الدنيا بأسرها وهي حرام؛ ما قيمة الدنيا وهي حرام إذا ملأت بها بطنك، وقدمت على الله وأنت آكل للحرام؟ عبادتك باطلة، وزوجتك وأولادك أكلوا الحرام، وحياتك كلها حرام في حرام لكن عندما تأكل ريالاً حلالاً أعظم بركة من مليون ريال حراماً.
فهؤلاء هم الذين كانوا يقومون الليل، ويصومون النهار، ويستعدون للوقوف بين يدي الله عزَّ وجلَّ، هؤلاء خافوا من الله، ولما خافوا من الله أمَّنهم الله يوم القيامة، يقولون: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} [الإنسان:١٠] ماذا حصل؟! {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ} [الإنسان:١١].
{إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:٢٦] كنا في أهلنا ومع أزواجنا وفي بيوتنا؛ لكن في قلوبنا شفقة وخوف {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} [الطور:٢٧] أي: أمَّننا الله (وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:٢٧ - ٢٨].
قال الله عزَّ وجلَّ جزاءً لهم على خوفهم: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} [الإنسان:١١ - ١٢].