[أهوال يوم القيامة]
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
يوم القيامة يوم عظيم، يومٌ تحدث فيه من الأحداث والمشاهد العظيمة ما يجعل الولدان شيباً، والمرضعة تذهل عما أرضعت، والحوامل يضعن أحمالهن؛ خوفاً وفزعاً ورهباً من تلك الأحداث العظيمة التي تتغير فيها معالم الكون.
يوم القيامة لو علمت بهوله لفررت من أهل ومن أوطانِ
يوم عبوس قمطرير أمره فيه تشيب مفارق الولدانِ
ويقول الآخر:
مَثّل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمورُ
إذ كورت شمس النهار وأدنيت حتى على رأس العباد تسيرُ
وإذا الجبال تقلعت بأصولها ورأيتها مثل السحاب تسير
وإذا البحار تأججت نيرانها ورأيتها مثل الحميم تفورُ
وإذا الوحوش لدى القيامة أحضرت فتقول للأملاك أين نسيرُ؟
فيقال سيروا تشهدون فضائحاً وعجائباً قد أحضرت وأمورُ
وإذا الجنين بأمه متعلق خوف الحساب وقلبه مذعورُ
هذا بلا ذنب يخاف لهوله كيف المقيم على الذنوب دهورُ
يوم القيامة هائل جداً، طوله خمسون ألف سنة، وخمسون ألف سنة سهلة باللفظ لكنها في التعداد العملي صعبة! خمسون ألف سنة والناس واقفون في ذلك اليوم العظيم الذي تتقطع فيه القلوب، وتشخص فيه الأبصار، والناس فيه يتوقعون كل عذاب، وهناك أناس آمنون لا يغشاهم الحزن: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:١٠٣] نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
هذا اليوم ضربه الله عز وجل موعداً لفصل القضاء، وللجزاء، وللوعد والوعيد، يوم تنصب فيه الموازين، وتنشر فيه الدواوين، ويبعث فيه الخلق أجمعون، وتتفطر السماء، وينزل منها الملائكة: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن:٣٧] وتحضر الأعمال، ويجزى الناس على ضوء أعمالهم في هذه الحياة.
وهذا اليوم يسبقه إبادة شاملة وكاملة لجميع الأحياء؛ لأن النفخة نفحتان: النفحة الأولى: نفخة الصعق: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر:٦٨] هذه نفخة الصعق لا يبقى بعدها أحد، كل الناس يموتون، والنفخة الثانية: نفخة البعث: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:٦٨] قيل: ما بين النفختين الأولى والثانية أربعون عاماً، وهذه المدة من أجل إعادة تكوين الأجساد البشرية كما كانت، وفي هذه المدة ينزل مطر من ماءٍ يقال له: ماء الحيوان، تنبت منه أجساد العباد؛ لأن الناس إذا ماتوا يفنى منهم كل شيء، إلا عجب الذنب في آخر العمود الفقري، وهو مثل بذرة الذرة، فأنت عندما تأتي ببذرة الذرة تكون صغيرة، إذا ما قستها مع الشجرة التي تنتج هذه البذرة أين هذه من تلك؟ تضعها في الطين وتسقيها بالماء، وتنبت لك نبتة الذرة وفيها سنابل، وأعذاق، وأوراق، وأغصان، وأصلها ماذا؟ حبة ذرة.
كذلك أنت -أيها الإنسان- أصلك نطفة، ولا يبقى منك إلا هذا العضو الصغير -عجب الذنب- لا يفنى، ولا ينبت في الأرض بأي ماء إلا بالماء الذي ينزله الله في آخر الزمان، وهذا الماء ورد في الحديث أنه يشبه مني الرجال، ينزل على الأرض فتنبت منه أجساد وأجسام العباد كما تنبت الحبة في حميل السيل، حتى تعود الأجساد كما كانت -يوم موت أصحابها- لكن بدون أرواح.
ثم ينفخ النفخة الثانية، والنفخة الثانية في الصور (البوق)، والصور: قرن من نور حاوٍ لجميع أرواح الخلائق، كل الخلائق الموجودة يموتون عند النفخة الأولى، وإذا كانت النفخة الثانية تطايرت الأرواح، وعادت كل روح إلى جسدها، فيقوم الناس كلهم من القبور كأنهم كانوا في نوم عميق، يقول تبارك وتعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس:٥١] والأجداث القبور، وينقسمون إلى قسمين: أناس يقولون: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:٥٢] وأهل إيمان يقولون: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس:٥٢ - ٥٣] هذا اليوم الذي تباد فيه الخلائق كلها، كما قال الله عز وجل: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:٢٦ - ٢٧] وكما قال الله تبارك وتعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:٨٨] وكما قال سبحانه وتعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:١٨٥].
وفي هذا اليوم يلاقي العباد شيئاً عظيماً من الكربات والأهوال؛ لأن الشمس تدنو من الرءوس حتى تصير على بعد ميل -قيل: ميل المكحلة، وقيل: ميل المسافة- حتى إنها لتغلي منها أدمغة العباد كما يغلي اللحم في القدور، والعرق يبلغ من الناس مبلغاً، لدرجة أن منهم من يسبح في عرقه، وورد في الحديث الصحيح: (أن منهم من يبلغ عرقه إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغ إلى حقويه، ومنهم من يبلغ إلى ثدييه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، ومنهم من يغطيه، ومنهم يسبح في العرق) ولك أن تتصور مقدار الحرارة في ذلك اليوم! في الدنيا، لو كانت الحرارة مائة درجة فإنه الناس يموتون بل حتى إذا بلغت حرارة الجو [٥٠مه]، [٥٥مه]، [٦٠مه] هناك من يموت، ونسمع في الأخبار أن موجات من الحر تمر على بعض الدول فيموت الناس من الحر، وهذه الدرجة لا تبلغ أن يسيل من الإنسان عرق بحيث يصير مثل الماء يُطبخ فيه، نعم! يسيل منه عرق لكن إذا كان كثيراً يبلل ثيابه، إما أن يسيل عرقه حتى يكون مثل السيل أمامه فلا! أيها الأحبة: وهناك في يوم المحشر أقل واحد هو من يسير في عرقه، فكيف الذي يغطيه؟! لا إله إلا الله.
هذه الأهوال والكربات لا ينجو منها إلا من أعد لذلك اليوم عدته، واستعد لذلك اليوم، وقدم المؤهلات من الإيمان والعمل الصالح؛ فإنه ينجو في ذلك اليوم، أما من يأتي يوم القيامة وهو مفلس من الإيمان، والعمل الصالح؛ فإنه يشقى، ويتعذب، ويكابد؛ ولو كانت عنده أموال الدنيا وزينتها من أولاد، وعمارات، ومؤسسات، وسيارات، ومنصب، وجاه؛ لم تغن عنه ولم تنفعه يوم القيامة بشيء.
والكفار كانوا في الدنيا يعتدون بأموالهم، كما يعتدي الناس الآن، صاحب الثراء والمنصب تجده مبسوطاً كل يغبطه هؤلاء الكفار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا معتدين بأموالهم وبأولادهم، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم كما قال الله عز وجل في القرآن الكريم: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ:٣٥] يقولون عندنا مال، ورجال، والعذاب منا بعيد، ولا يقدر علينا؛ لأن عندنا ما نمتنع به، فالله عز وجل قال: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} [سبأ:٣٧] ما تغني عنكم ولا تنفعكم شيئاً: {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ:٣٧].
وفي نهاية هذا اليوم بعد التمحيص والاختبار، والفحص والتقسيم والتمييز بين الخلائق؛ ينقسم الناس إلى فريقين: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:٧] نعوذ بالله من دار السعير، ونسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعلنا من أهل الجنة.