[علم الله بمآل المرء إلى شقي أو سعيد هو علم سابق لا سائق]
وآخر يقول: ربما أن الله كتبني يوم أمر الملك بكتابة رزقي وأجلي وعملي، وشقي أو سعيد، أنني شقي، قلنا له: لماذا تتوقع أنك شقي؟ لماذا لا تتوقع أنك سعيد؟ لِمَ تحتمل الخيار الأسوأ ما دامت القضية محتملة؟ ومعنى الكتابة هنا أي: سبق العلم لا الإلزام؛ لأن الكتابة كما يقول العلماء سابقة لا سائقة، يعني: أن الله علم أنك سوف تأتي وتفجر، وتكون نهايتك بعد فجورك النار، فكتب أنك شقي، وليس معنى هذا أن الله كتبك أنك شقي أنك لا تستطيع أن تطيع الله، فسبق العلم صفة من صفات الله، إذ أن الإنسان إذا كان لا يعلم الذي في المستقبل والله لا يعلم، ففي هذه الحالة سيستوي الإنسان مع الله؛ وهذا محال، من الذي يعلم ما الذي يصير غداً؟ إنه الله، هذه صفة كمال في الرب؛ أنه يعلم ما سيحدث في المستقبل، فالله يعلم أنه سيأتي أحد من الناس ويعيش، ويكون عمله سيئاً وتكون نهايته أن يكون شقياً، فكتب عليه علماً وأزلاً أنه سيكون شقياً بما علمه الله من عمله، لا بما جبره الله وألزمه أنه لا يكون إلا عاصياً، فهذا يقول: ربما أن الله كتب عليَّ أن أكون شقياً، ولهذا أصبح مع الأشقياء، أتعرفون ما مَثَلُ هذا؟ مثل هذا كمدرس في بداية العام الدراسي، تعرفون أن المدرسين وبعض الموظفين تقدر لهم العلاوة الدورية على ضوء تقييمهم، على ضوء تقرير الكفاءة في آخر السنة، مدير المدرسة يأتي بنقاط التقييم ويقيس المدرس يشرِّحه واحدة واحدة: مظهره، أداؤه، دوامه، إخلاصه، تفانيه، إنتاجه، ويأتي به ويضع له كل شيء، بعض المدراء يضع بالكريك، لكل المدرسين ستة ستة ستة، وهو لا يساوي صفراً، ولكن يقول: يا شيخ! الله الرزاق وهو كريم، ولذلك لا يعرف الطيب من البطال بهذا التقييم، التقييم أمانة في عنقك أيها المدير، فلا تظلم الدولة فتعطي أحدهم تقييماً وهو لا يستحق، ولا تظلم المواطن أو المدرس فتعطيه تقييماً أقل مما يستحق، أعطه ما يستحقه من أجل أن يكون هناك تفاضل بين الناس، عندما يأتي المدرس الممتاز ويأخذ علاوة أكثر بـ (٥%)، ويأتي المدرس الجيد جداً ويأخذ علاوة (٤%) من راتبه، ويأخذ المدرس الجيد (٣%)، والبقية محرومون -أي: المتوسط والضعيف- يأتي هذا الذي أخذ متوسطاً السنة المقبلة فيأخذ ممتازاً ويأخذ علاوة، لكن عندما تضع للضعيف (١٠٠%)، والممتاز (١٠٠%)، قال ذاك: والله إني أجتهد، وإن فلاناً بليداً وأنه مثلي، إذاً نصير بلداء سواء، ما دام القضية سواء، فيأتي المدير بنقاط التقييم ويضعها، وفي نهاية السنة يعطى للموظف العلاوة الدورية، على ضوء عدد العلامات، فهناك أحد المدرسين من أول السنة لا يحضر في طابور الصباح، ولا يأتي الحصة الأولى إلا وقد ضاعت نصفها، وقبل أن تصفر بربع ساعة يخرج على الباب، ويتلفت على المراقب، وبعد أن تصفر يتهرب، ويجلس في الإدارة، وبعد ذلك صفرت والمدير يقول له: قد بدأت الحصة يا إخوان، قال: حسناً! ويمشي بتباطؤ، يريد أن يصل إلى الفصل بعد ربع ساعة، وإذا دخل، قال: ما عندكم يا أولاد؟ من الذي عنده خبر جديد؟ هل سمعتم أخباراً جديدة؟ قالوا: يا أستاذ! حصة قرآن، قال: صحيح قرآن، لكن أولاً نرى ما هي الأخبار الجديدة، وهو يهمه أن يفوت الحصة بأي وسيلة، وبعد ذلك جاءه أحد المدرسين من زملائه، قال له: يا أخي! أنت مهمل في دوامك، وأدائك، وتدريسك، فلماذا هذا الإهمال؟ قال: ربما المدير يضعني آخر السنة ضعيفاً، ولهذا سوف أكون ضعيفاً من الآن، لماذا أتعب نفسي، وفي الأخير يضعني ضعيفاً في آخر السنة؟ أنا سوف أرقد، أنت فقط تحضر وتتعب وتشتغل وفي الأخير تجد نفسك في آخر السنة ضعيفاً، بالله ما رأيكم في هذا المدرس أهو مجنون أو عاقل؟ مجنون، نقول لك: يا مدرس! أنت واجبك أن تعمل، وواجب المدير أن ينصف، وأن يعطيك بالميزان، مثلما تعمل تأخذ.
أما أن تهمل خوفاً من أن يضعك المدير ضعيفاً فهذا غلط.
ومثال آخر يقرب المعنى أكثر: مدرس دخل على طلابه، من أول العام الدراسي، وبدأ يصنفهم إلى مجموعات وفئات: الجيدين يضعهم في الوراء، والكسالى يقربهم منه من أجل أن يعطيهم مزيداً من الاهتمام، ويركز عليهم، حتى ينتشلهم من وضعهم، إلى وضع أحسن، وبعد ذلك دخل عليه يوماً من الأيام مدير المدرسة، واختبر الطلاب ورأى مستواهم، انبسط، وقال له: يا أخي! الطلابُ عندك كم؟ قال: ثلاثون طالباً، قال: كم تتوقع نسبة النجاح فيها، وكم تتوقع نسبة الرسوب؟ فالمدرس بحكم معرفته -قد درسهم وعرفهم واحداً واحداً، وعرف الطيب والبطال- قال: أتوقع أن ينجح ثمانية وعشرون طالباً، وهناك اثنان ربما رسبوا، وهو يعرفهم المدرس، فواحد من طلاب الفصل، لما سمع الكلمة، ترك المذاكرة والدروس، ولا يحل واجباته، ولما جاء آخر السنة وسقط، قالوا له: مالك سقطت؟ قال: إن المدير قال في أول السنة: إن هناك اثنين سيسقطون، فتوقعت أني واحدٌ منهم، فلم أتعب نفسي بالمذاكرة، وبعد ذلك أسقط في آخر السنة، ما دام أن هناك اثنين سيسقطون ربما أني منهم، حسناً! لماذا ما يمكن أن تكون من الثمانية والعشرين الذين سينجحون؟ لكن انهزام الإنسان أمام شهواته، وحبه للخلود والراحة والأغاني، والأكلات والنومات والتمشيات، هذا يجعله يقول ربما أكون شقياً، لكن لو أنه أخذ بالعزيمة واحتمل أن يكون -إن شاء الله- سعيداً، وبعد ذلك كون الإنسان شقياً أو سعيداً في الأزل، هذا ليس من اختصاصنا، هذه ليست داخلة في دائرة اهتماماتنا، ما هو اختصاصك أنت؟ اختصاصك أن تطيع الله ولا تعصه فقط، وعندك يقين بعد هذا أن الله لا يظلم مثقال ذرة.
أما أن تجلس وتبحث في علم الله، وماذا كتبتني يا رب، شقياً أم سعيداً؟ هذا ليس من شأنك، أنت عبد خلقك الله لعبادته، وبين لك الطريق إليه، وأعطاك القدرة على السير في الطريق، سر في الطريق، فعندك عقيدة ومن ضمن صفات الله العدل {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}[النساء:٤٠]{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ}[آل عمران:١٩٥] لا يضيع الله عملَ عامل، فقط امش في الخط الصحيح، واعمل عملاً ووفر فيه شروطَ القبول، وهي: الإخلاص لله، والمتابعة لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وابتعد عن شيء ثالث مهم يهمله الناس، لا ينفعك العمل في الآخرة إلا بانتفاء الموانع وإبعاد المبطلات؛ لأنك قد تعمل عملاً صالحاً، أردت به وجه الله مخلصاً، وسرت به على هدي رسول الله مقتدياً، ولكن بعدما فعلته أبطلته ونسفته، كيف تنسف العمل؟ بمبطلات كثيرة، منها: الشرك، والرياء، والمنّ والأذى تصل إلى ثلاثين مبطلاً، وسوف يكون هذا الموضوع دروساً بإذن الله بعنوان: مبطلات العمل، ما هو الذي يبطل العمل؟ تعمل عملاً حسناً؛ لكن بعدما تنتهي ترجع وتنسفه، يعني: كرجل يصلي صلاة حسنة، ثم يذهب يخبر بها الناس، أو يرائي بها فإنه ينسفها، وأحدهم يتصدق صدقة ويخفيها، وبعد ذلك يذهب ويمنُّ بها فيبطل صدقته:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى}[البقرة:٢٦٤] تؤذي هذا كلما تصدقت عليه، أو تمن عليه كلما لقيته، فدورك ومسئوليتك أن تعمل عملاً صالحاً، وتترك السيئات والمعاصي، وبعد ذلك يكون عندك يقين وجزم على أن الله لا يظلم أبداً:{لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ}[الحشر:٢٠].
هذا الجواب قلته لأخي الكريم! الذي سألني، وأقوله لكم ليكون جواباً حاضراً في أذهانكم على من يقول: لو أن الله هداني.
نقول له: قد هداك الله، لكنك لا تريد أن تهتديَ:{وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا}[لقمان:٢٣]{وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ}[النمل:٧٠]{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}[النحل:١٢٨].
كنت أود هذه الليلة، أن يكون الكلام على سبب من أسباب عذاب القبر؛ لأنه بقي عندنا سببان، لكن كثرة الأسئلة، وبمراجعتها وجدت أنها مهمة جداً، وأن إهمالها ليس فيه مصلحة؛ فإن الأسئلة تنبع من حاجة، فهذا الذي يسأل سؤالاً، معنى ذلك أن في قلبه حاجة، ويريد أن يجاب على سؤاله، فوجدت أن الضرورة تقتضي أن أجيب على الأسئلة، والموضوع الذي كان ينبغي أن نأخذه في هذه الليلة نؤجله إلى الأيام القادمة بإذن الله عز وجل.