للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[المأخذ الأول: التلقي الصحيح على أيدي أهل العلم]

المأخذ الأول: التلقي الشرعي الصحيح على أيدي علماء القرآن؛ لأنه كلام الله، لا تقرؤه مثلما تقرأ جريدة، أو مجلة، أو مثلما تقرأ كتاباً، لا.

كلام الله له أداء معين، له هيئة معينة، هو وعبادة تؤديها، الله يقول: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:٤].

ولما سئل علي بن أبي طالب عن الترتيل قال: [هو معرفة الوقوف، ومعرفة مخارج الحروف] هذا معنى الترتيل، أن تعرف كيف تخرج الحرف وأين تقف، وهذا كله لا بد أن يكون عن طريق التلقي من عالم يعرف القرآن وأسراره، فتدرس على يديه؛ لأن التجويد لا يأتي بالقراءة في كتب التجويد، وقد كنا نقرأ -من قبل أن ندرس القرآن على المشايخ- القرآن ونعرف أحكام التجويد، أحكام النون الساكنة والتنوين أربعة: الحكم الأول: الإدغام: وحروفه ستة، مجموعة في قولك: (يرملون) وهو ينقسم على إلى قسمين: القسم الأول: إدغام بغنة: وحروفها أربعة، وهي مجموعة في قولك: (ينمو) الياء والنون والميم والواو.

القسم الثاني: بغير غنة وله حرفان هما: اللام والراء.

هذا الحكم الأول.

فوالله أني كنت أحفظه مثلما أعطيكم الآن في السنة الرابعة أو الخامسة الابتدائي، ولا أدري ما هو الإدغام، وما هو الإقلاب، لكن فقط أحفظه هكذا.

وحروف الإخفاء خمسة عشر حرفاً، مجموعة في أوائل هذه الأبيات:

صف ذا ثنا كم جاد شخص قد سما دُم طيباً زد في تقى ضع ظالما

لا أدري ما معنى: ضع ظالماً، وما معنى: دُم طيباً، أقرؤه فقط، وإذا جئت عند الأستاذ قال: كم حروف الإخفاء؟ قلت: خمسة عشر حرفاً، مجموعة في أوائل هذه الأبيات، وأذْكُرُه.

فقال: تفضل، أنت مُجَوِّد، لكن اقرأ القرآن فما أجود، مثل الذي يعرف نظام السير لكن لا يعرف كيف يقود السيارة، ما رأيكم في شخص يعرف أن الاتجاه يكون إلى اليمين، وأنه لا بد أن يقف عند الأحمر، وأنه لا بد إذا وقف أن يشير بشِماله، وأنه إذا أراد أن يأخذ يميناً يؤشر إلى اليمين، وإذا أراد أن يأخذ شِمالاً يؤشر إلى الشِّمال، لكن إذا قلت له: قد السيارة، قال: والله لا أعرف، أريد رخصة بالكلام فقط! فهذا هو الذي يعرف التجويد، ولا يعرف التطبيق، يريد رخصة في التجويد وهو لا يعرف أن يطبق التجويد، ولكن شخص آخر يعرف قيادة السيارة، ويطبق تعليمات السير كلها مضبوطة، لكن عندما تسأله لا يعرف، يعرف عملياً، ما رأيكم أيهما الأحسن العملي أو ذاك؟! العملي، وإذا وجدنا شخصاً عملياً ونظرياً، يعرف أحكام السير العملية، والنظرية، فهذا نور على نور.

وكذلك القرآن، لا بد فيه من التلقي على يد عالم، يقول ابن الجزري في قصيدته:

والأخذ بالتجويد حتمٌ لازمُ مَن لَمْ يُجَودِ القرآنَ آثمُ

لأنه به الإله أنزلا وهكذا منه إلينا وصلا

وهو أيضاً حلية التلاوةِ وزينة الأداء والقراءةِ

وليس بينه وبين دَرْكِهِ إلا رياضة امرئ بفَكِّهِ

يعني: ما بينك وبين إدراك التجويد إلا ترويض وتعويد الفم، هذا تأخذه من الكتاب؟! تأخذه من عالم تراه أمامك يقرأ، يقول: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ} [الناس:١ - ٢] هذه غُنَّة، أين؟ في النون المشددة، أيُّ نونٍ في القرآن عليها شدة أصلها نونان، تحتاج إلى غُنَّة من أين تأخذها؟! لا تأخذها إلا من التجويد، والتجويد مأخوذ من: جوَّد الشيء يعني: أحسنه وأتقنه، عندما تقول لشخص: بالله افعل لي هذه الفِعْلة لكن جودها، يعني ماذا؟! يعني: أحسنها، ودائماً الناس إذا رأوا شخصاً حَسَناً قالوا: فلان والله جيد، يعني: لا يوجد أحد أحسن منه! فالتجويد مأخوذ من الإحسان وأداء القرآن في أحسن هيئته، فالأخذ به حتم لازم، من لم يجوِّد القرآن وهو قادر على التجويد آثم، لا سيما -من فضل الله- بعد أن توفر مدرسو القرآن في أغلب المساجد في هذه المدينة، وفي غيرها من مدن المملكة الطيبة، كثيراً ما تجد مسجداً والعالم جالس هناك من بعد المغرب إلى العشاء، ولكنه جالس وليس عنده أحد.

كأن الأمة قد حفظت التجويد من أوله إلى آخره، وأصبحت مستغنية عن علماء التجويد، ولو وقفت على الشارع، أو زرت الدكاكين، ولقيت اثنين أو ثلاثة جالسين في الدكاكين، فتقول له: تعال يا أخي! أنت تجود القرآن؟ قال: لا والله، لا أعرف فيه كلمة.

فتقول: إذاً لماذا أنت جالسٌ هنا؟! تعال اجلس مع الشيخ، تلقَّ التجويد عن العالم.

قال: لكن لا يوجد اهتمام.

يضيع وقته وحياته، ورغم أن الفرصة متاحة أمامه، وكذلك بعض طلبة العلم لا يهتم بهذا.

فأول وسيلة للتثبيت بالقرآن: أن تحرص على قراءة القرآن كما أنزله الله تبارك وتعالى؛ لأنه فرق كبير بين من يقرأ القرآن دون مراعاة لأحكام التجويد، وبين من يجوِّد! أنت لو جلست بجانب رجلين، واحدٌ عن يمينك، وآخر عن يسارك! فالأول يقرأ القرآن بسرعة يهذه هذاً، والآخر يقرؤه بترتيل وتؤدة.

فهما قرأا القرآن، لكن فرقٌ بين هذا وذاك مثل ما بين السماء والأرض، مثل شخص -ولله المثل الأعلى- أحب أن يدعوك إلى وليمة، ويحضر لك طعاماً من أحسن الأطعمة منوعاً، وكل نوع في صحن ومجملاً، فتأتي على السفرة فتجد شيئاً منمَّقاً.

وشخص آخر يدعوك، ولكنه مستعجل، يريدك أن تتعشى وتمشي، فوضع الأرز على السلطة و (العصيدة) والمرق والفاكهة، و (المهلبية) وخلطها كلها، وفتح فمك بقوة وأخذ يدخل فيه الطعام، ويقول: أسرع، تعشَّ.

بالله ما رأيك في هذا الإنسان؟! هذا مسكين، طَبَخَ ونَفَخَ وتَعِبَ واشترى من السوق، لكن ما قدم لك السفرة بشكل لائق، فتقول: الله أكبر عليك! دعني آكل على راحتي يا أخي! ماذا بك؟! تريد أن تغذيني أم تريد أن تذبحني؟! هذا بذاك سواءًَ بسواء.

هذا الذي يسرع بالآيات القرآنية ويقرؤها عليك بسرعة ما أفادك ولا استفاد، فلا بد من تلاوة القرآن كما أنزله الله تبارك وتعالى.