فالقبر أول منزل من منازل وأول درجة من درجات الآخرة، وهو إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار.
فلذا كان عثمان رضي الله عنه إذا ذكر القبر بكى وارتعد، وإذا ذكر الجنة والنار لم يبك؛ لأنه يرجو ويخاف، يرجو في رحمة الله أن يكون القبر روضة من رياض الجنة، ويخاف من عذاب الله أن يكون القبر حفرة من حفر النار، فيخاف من القبر؛ لأنه يعلم أن ما بعده أيسر أو أشد منه، ولما كان ما بعد القبر أيسر منه لمن نجا، فإن العبد إذا رأى في قبره ما أعد الله له من نعيم قال: كما في حديث البراء بن عازب: (رب أقم الساعة، رب أقم الساعة، رب أقم الساعة، فيقال له لم؟ قال: لعلي أرجع إلى أهلي ومالي) أين أهله وماله؟ ليس ذلك في الدنيا، وإنما يرجع إلى أهله وماله في الجنة؛ لأنه يرى قصوره ويرى الحور وما أعد الله له من النعيم، فهو في القبر في روضة من رياض الجنة، لكنه يريد ما هو أعظم، يريد الجنة.
وأما الكافر -والعياذ بالله- والمنافق والفاجر، فإنه وهو في حفرة من حفر النار يرى الحيات والعقارب، والسلاسل والأغلال والأنكال وأودية العذاب، والنار يحطم بعضها بعضاً، عند ذلك يقول: رب لا تقم الساعة، رغم أنه في عذاب لكن ما بعده أفظع، فهو لا يتمنى أن تقوم الساعة عليه؛ لعلمه بأن ما بعده أعظم مما هو فيه، والعياذ بالله! أما ظلمة القبر، فالقبر له ظلمة وله نور أيضاً، فهو ظلمة على أهل المعاصي، ونور على أهل الطاعات، نور الله قلوبنا وقلوبكم وقبورنا وقبوركم، وقبور آبائنا وأمهاتنا وجميع إخواننا المسلمين، وفي الحديث الذي رواه الإمام البخاري، ومسلم، وأصحاب السنن: والبيهقي، وأحمد في المسند - قال:(ماتت امرأة كانت تقمّ المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) تقم المسجد: أي تزيل القذر، والقذر غير النجاسة، إذ لا يتوقع أن يكون في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم نجاسة، لكن القذر: ما يتقذر منه، كالشعرة، والعود، والورقة، والكناس، أي شيء من هذا الذي تجده في المسجد، من أعظم القربات أن تحمل هذه الشيء.
ولقد قال لي أحد المشايخ يقول: رأيت شاباً في مقتبل العمر وهو جالس في المسجد يذكر الله ويقرأ، فرفع رأسه فرأى أمامه أعواداً، يقول: فجمع الأعواد من أمامه وفتح جيبه وجعلها في جيبه.
يقول: سبحان الله! كيف ترق نفس المؤمن وتصبح شفافة إلى أبعد درجة، لدرجة أنه يجعل المسجد أعظم حرمة من ثوبه وجيبه، يجمع أذى المسجد ليضعه في جيبه، الإنسان لا يضع في جيبه إلا الشيء الغالي أليس كذلك؟ تضع النقود، والشيكات والأوراق الغالية والنفيسة، لكن تضع القمامة في جيبك؟! لو كنت في بيتك ووجدت أي قمامة لا يمكن أن تضعها في الجيب، تأخذها وترميها أو تتركها؛ لكن في بيت ربك، لا.
جيبك أولى بالقمامة من بيت ربك.
فهذا العمل بسيط في ظاهره كونه يأخذ الحبة ويضعها في جيبه، لكنه عند الله عظيم، لا إله إلا الله! بدليل حديث البخاري ومسلم: أن هذه المرأة التي كانت تقم المسجد أي: تكنسه وتنظفه، ففقدها النبي صلى الله عليه وسلم، فقدها وفقد آثار عملها، رأى بعض الأشياء في المسجد، ففقدها من فقدانه لأثر فعلها، وهو تنظيفها للمسجد فسأل عنها، فأخبروه: أنها ماتت بالليل وأنهم دفنوها، ولم يخبروه صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كرهوا إيقاظه وإزعاجه، لعلمهم بما كان يبذل صلى الله عليه وسلم من جهد جهيد في سبيل خدمة الدعوة الإسلامية، فكانت حياته كلها لله.
فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال:(أفلا آذنتموني؟ أفلا آذنتموني؟ ثم طلب من أصحابه أن يدلوه على قبرها، ثم جاء إلى قبرها، فصلى عليه صلوات الله وسلامه عليه -صلى عليها صلاة الجنازة- ثم قال: إن هذه القبور مليئة بالظلمة على أهلها، وإن الله عز وجل منورها لهم بصلاتي عليهم) رواه البخاري ومسلم.
فالظلمة موجودة في القبر؛ وسبب الظلمة ما يكتسبه الإنسان من دخان المعاصي في الدنيا، فمن يعيش في بيته على دخان المعاصي يعيش في دخانها هناك، وفي ظلمتها في القبر، وعلى الصراط، وفي دار الظلمات، يوم أن ينادي أهل الإيمان ويقول:{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً}[الحديد:١٣] من أراد النور فعليه بالتعبئة من الآن من محطات النور وأماكن الطاعات، فالطاعة نور والمعصية ظلام -أعاذنا الله وإياكم من ذلك- هذه ظلمته!