للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ترجمة ابن مسعود رضي الله عنه وتعريفه للتقوى]

سئل ابن مسعود عن معنى تقوى الله رضي الله عنه وأرضاه، وابن مسعود هو عبد الله بن أم عبد الهذلي، كان قصير القامة؛ إذا وقف والناس جلوس كان في مثل طولهم، وكان دقيق الساقين، ولكن يحدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فيقول: (من أراد أن يقرأ القرآن غضاً طرياً كأنما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد) أي: ابن مسعود، ويقول فيه: (ملئ إيماناً من مشاش رأسه إلى أخمص قدميه).

ويقول وقد طلع يوماً من الأيام في نخلة يريد أن يجني منها ثمراً، فكشفت الريح عن ساقيه؛ فضحك بعض الصحابة لدقة ساقيه، فقال صلى الله عليه وسلم: (أتعجبون من دقة ساقي ابن مسعود، والذي نفسي بيده! لهما أثقل عند الله في الميزان من جبل أحد) فهما ساقان دقيقتان ولكنها أعظم عند الله من جبل أحد؛ لأنها حملت رجلاً من أعظم الرجال، فمن الناس من سيقانه مثل سيقان الفيل ولكنها إلى النار -والعياذ بالله- لأنه لا يقف عليها بين يدي الله، ولا دخل بها بيتاً من بيوت الله، بل يصول بها ويجول في الملاعب والمنتزهات والشواطئ، ولكن أماكن الخير ومواطن الرضا لا يأتيها، هذه إن كانت سمينة، لكنها سمينة وإلى النار.

لكن السيقان الدقيقة لم تحمل هذا الصحابي إلا في الخير، وفي يوم بدر، فـ ابن مسعود لما أسلم كان داعياً لبعض أهل مكة، وهو من قبيلة هذيل وهي قبيلة بجانب مكة، فلما أسلم علم به أبو جهل فلقيه في بعض طرقات مكة، وأمسك أذنه وكان يعركها، وقال له: أصبأت يا رويعي الغنم! قال: فسكت؛ لأنه لا يستطيع أن يتكلم فلو تكلم فإنه سيذبحه، قال: فأمسكني من أذني حتى ألصقني بالجدار ثم أخرج مسماراً من جيبه ودق إصبعي بالمسمار في الجدار، يقول: وبقيت معلقاً بالمسمار طوال يومي، حتى مر أبو بكر رضي الله عنه ففك المسمار والدم يسيل إلى الأرض، قال: فنسيتها.

وجاءت الأيام ودارت الأعوام إلى أن جاءت غزوة بدر، وقتل أبو جهل، قتل بضربتين مختلفتين من معاذ ومعوذ ابني عفراء من الأنصار، ولكنه لم يمت، ولا يزال يلفظ أنفاسه، فقام ابن مسعود يتفقد القتلى، فمر على أبي جهل وهو يكاد يموت، قال ابن مسعود: فصعدت على صدره -وصدر أبي جهل كصدر البعير- وأخذت سيفي وحززت عنقه، فقال لي: لقد ارتقيت مرتقىً صعباً يا رويعي الغنم! إذا قطعت رأسي فأطل عنقي فإن العنق مع الرأس! حتى يبقى رأسي طويلاً وكبيراً، عزة حتى في الموت، الله أكبر! ما أشد عناد هذا الخبيث! يقول: فحززت عنقه -أي: قطعت رأسه- فلم أستطع حمله -فرأسه كرأس الثور كبير لا يُحمل -وابن مسعود صغير، فقد يكون رأسه أكبر من ابن مسعود، قال ابن مسعود: (فحاولت أن أحمل رأسه فلم أستطع، فأخرجت سيفي وخرمت في مسمعه، ثم أتيت بحبل وربطته في مسمعه وسحبت رأسه، حتى قدمت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فلما رآني الرسول تذكر ما حدث في مكة وقال: إيه يا ابن مسعود الأذن بالأذن والرأس زيادة) أذن في مكة بأذن هنا، ولكن معك مكسب؛ وهو الرأس، رضي الله عنه وأرضاه.

وهو الذي يقول: [والله ما من آية في كتاب الله إلا وأنا أعرف أين نزلت، ومتى نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، في ليل أو نهار، وفي حضر أو سفر، في حرب أو سلم] عنده تخصص في معرفة كتاب الله، ومعرفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم.

قال: [تقوى الله أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر] أن تطيع الله فلا تعصيه، وأن تذكره، وكيف تنسى ربك الذي خلقك؟!! وما أعظم نعم الله على الإنسان، نعمة الخلق والإيجاد، والرزق والإمداد، والإيمان والإسعاد، ونعم لا تعد ولا تحصى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ} [النحل:٥٣] {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:٣٤] وأن يشكر فلا يكفر.

وهذا معنى تقوى الله حق تقاته.