للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[صبر يوسف عليه السلام عن معصية الله]

قال يوسف الصديق لما دخل عليه إخوته وقالوا: {أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي} [يوسف:٩٠] فقال بنيامين {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} [يوسف:٩٠] سبحان الله! ما أعظم صبر يوسف، قصته مشرقة في جميع البيوت الربانية التي يتلا فيها القرآن، فقد مكث في السجن بضع سنين، وبعد ذلك أرسلوا له: أن احضر إلى ربك فيقول للرسول: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف:٥٠] يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يرحم الله أخي يوسف لو كنت أنا لخرجت) أي: بمجرد أن يقولوا: اخرج من السجن فلن أطلب براءة، فالمهم الخروج من السجن.

لكن يوسف يقول: لا أخرج من السجن حتى تثبت البراءة.

وتثبت البراءة له عن طريق إحضار امرأة العزيز والنساء حين يقال لهن: {مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:٥١] {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} [يوسف:٥١ - ٥٢] هذه براءة تثبتها له صاحبة الشأن التي تسببت في اتهامه وسجنه.

ويخطئ كثير من الناس في مقام الأنبياء المعصومين فيفسرون قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف:٢٤] تفسيراً خاطئاً لا يليق بمقام الأنبياء، فيقولون: إنها همت به، يعني: بالفاحشة وهو هم بها، أي: أرادها، وهذا خطأ، لماذا؟ لأنه لو هم بها فما الذي يمنعه؟ الاستثناء الذي بعدها في قوله تعالى: {لوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:٢٤] له تفسير في القرآن الكريم، وهو: أن معنى الهم في اللغة أي: العزم على مباشرة الشيء، هممت أن آكل، يعني: أردت أن آكل، هممت أن أقوم، يعني: أريد أن أقوم، هممت أن أنام، هممت بالسفر، وقد ذكر الله كلمة الهم في القرآن في أكثر من موضع: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} [آل عمران:١٢٢]، ما معنى همت أن تفشلا؟ هل معناه همّت أنها تزني؟ لا.

كلمة الهم تفسر من الحال الملابس لها، فالذي يقول: هممت أن أقوم يعني: همّ بالقيام، هممت أن أنام يعني: همّ بالنوم، والذي يقول: هممت أن آكل، يعني: همّ أن يأكل.

فالهم يعني: العزم وإرادة الشيء، وتفسر بالمعنى الملابس لها، فالذي كان يلابس امرأة العزيز رغبتها في يوسف، فهمت به، يعني: لتباشر الزنا معه، والذي كان يلابس يوسف الرفض لأمرها، فهمّ بها، ما معنى: هم بها؟ قال المفسرون: همَّ ليضربها، همت به ليزني بها فهم بها ليضربها، واستبقا الباب، قال الله عز وجل: {لوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:٢٤] ذكر المفسرون في هذا كلاماً، لكن أصح الأقوال في هذا الموضوع: أن الله قذف في قلبه برهاناً وبصيرة في أن ضربك يا يوسف لهذه المرأة سيزيد من إدانتك، ويثبت عليك الحجة، يعني: لو جاء زوجها ووجد يوسف يضربها فستقول: هو يراودني عن نفسي وأنا أرفض فيضربني.

فالله قذف في قلب يوسف ألا يضربها حتى لا يدين نفسه؛ لأن ضربه لها -رغم أنه يضربها حتى لا يزني بها- سيمكنها من قلب المسألة، وفعلاً قلبت المسألة، فلما استبقا الباب كان هو فاراً منها وهي في أثره، وأرادت أن تمسك بأي جزء منه، فقطعت ثوبه من الخلف: {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف:٢٥] أي: وجدا زوجها عند الباب، فعلى الفور قلبت المسألة رأساً على عقب: {قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف:٢٥] قال يوسف: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} [يوسف:٢٦] يقول: هي التي تراودني، فكيف به لو دخل عليه الملك وهو يضربها لكانت الحجة قائمة عليه، وهذا معنى ما سبق، وإلا فهو عليه الصلاة والسلام نبي، وبعض الناس من غير الأنبياء يتنزهون عن الزنا فكيف بنبي يقع في الزنا، أو يهم به؟! معاذ الله! والذي يرى هذا القول إنما ينال من جانب النبوة.

فيقول يوسف: {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} [يوسف:٩٠] يقول المفسرون: إن صبر يوسف كان من أعظم المقامات في الصبر: الصبر الأول: أنه صبر في الجب.

والصبر الثاني: أنه صبر في السجن.

والصبر الثالث: أنه صبر على ممارسة الضغط عليه من قبل امرأة العزيز قبل ذلك، فإنه كان في بيت الملك وكان شاباً، جميلاً، وسيماً، غريباً، والغريب لو فعل شيئاً فلن يدري به أحد على الأغلب؛ لأن سمعته في بلده، كما أنه كان آمناً في بيت الملك؛ فلا يستطيع أحد أن يخبر به، وكانت امرأة العزيز من أجمل نساء العالمين، وهو مطلوب لها؛ لأن بعض الناس يتعفف حين لا يطلب منه، ولو طلب منه لما تعفف، وكانت الأبواب مغلقة عليه، قال الله: {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} [يوسف:٢٣] وهذه تسمى صيغة مبالغة، يعني: ما أغلقت، بل غلَّقت، يعني: ما ردت الباب، بل أغلقته بإحكام، وهو ليس باباً واحداً بل أبواب، باب أول وثانٍ وثالث من أجل أن يأمن، وبالرغم من هذا كله صبر يوسف وقال: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:٢٣] ولم يزنِ.

قال: {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:٩٠] وهذا يدل على أن الصبر من أجلِّ مقامات الإيمان والدين، وأخص الناس بالصبر هم أخص الناس بالله عز وجل، وأولاهم بالله أشدهم على الصبر تحققاً وقياماً به، والخاصة أحوج إليه من العامة.