[مشروعية الصوم على من قبلنا من الأمم]
ثم جاء الأمر من الله عز وجل بنوع من التدليل والتلطيف للمؤمنين أن هذه القضية ليست خاصة بكم؛ حتى لا تقولوا: لماذا يا رب كتبت علينا الصيام؟! فقال الله عز وجل: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: ٨٣] فما كتبنا الصيام على أمة محمد فقط، وأنتم يا أمة محمد أحسن الأمم، وأنتم أفضل الأمم؛ لأن نبيكم أفضل الأنبياء، وكتابكم أعظم الكتب، وأنتم آخر الأمم، ودينكم آخر الأديان، يقول عليه الصلاة والسلام: (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة) أول نبي يدخل الجنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول أمة تدخل الجنة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأول شافع ومشفع يوم القيامة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصاحب اللواء يوم العرض هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وصاحب الحوض المورود هو الرسول صلى الله عليه وسلم، فكرامته عند الله وكرامة أمته عند الله جعل لها هذه المنزلة، فدين الله في حقكم ميسر فلا تتخيلوا أن الله كلفكم بشيء لم يكلف به الأولين؛ بل إن تكليف الله لكم بالصيام أخف من تكليف الله عز وجل لغيركم من الأمم، فقد كانت الأمم السابقة يصومون ولكن بطريقة أشد من صيامنا، كان إمساكهم الإمساك عن الطعام والشراب والنكاح والكلام، من أول ما يمسك حتى يفطر فلا يقل كلمة واحدة، وإذا قال كلمة انتقض صومه وعليه أن يقضي يوماً.
ورفع الله عنا هذا التكليف وأباح لنا الكلام؛ لكن أباح لنا الكلام بذكره وشكره، وتلاوة كتابه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والكلام الذي يحبه الله فيما يعود علينا بالنفع في الدين والدنيا، ولكن بقي الكلام المحرم محرماً؛ فالغيبة تبقى محرمة، والنميمة تبقى محرمة كما هي في شعبان وهي في رمضان أشد حرمة، ولهذا جاء في الحديث: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) ولكنَّ كثيراً من الناس استخدموا هذه النعمة -وهي الكلام- في المعاصي، فتجد الرجل يجلس من بعد العصر حتى المغرب في متجره وهو يتكلم في الغيبة والنميمة، والمرأة تجلس طوال اليوم في الغيبة والنميمة، فأين استغلال هذه النعمة فيما أباحه الله عز وجل؟ فالله يقول: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:١٨٣] الذين من قبلنا من الأمم السالفة كان الله عز وجل يفرض عليهم في صيامهم أشياء كثيرة من ضمنها الإمساك، اسمعوا ماذا يقول الله عز وجل عن مريم عليها السَّلام؛ ومريم امرأة صالحة كانت تعبد الله عبادة منقطعة النظير، في بيت المقدس؛ لأن أمها لما حملت بها ووضعتها نذرتها لله، فقالت كما قال الله عنها: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:٣٥ - ٣٦] فالله عز وجل استجاب دعوتها فأعاذها وأعاذ ذريتها من الشيطان الرجيم.
فكانت امرأة محروسة بأمر الله، وكانت متعبدة وذاكرة وتالية وقائمة وقانتة لله في عبادة عظيمة ليس لها نظير، وأراد الله أن يجري عليها سنة من سننه وآية من آياته في أن تحمل من غير زوج، وهذا شيء ليس معتاداً لدى البشر، إذ لا يمكن أن يكون ولد إلا بزوج، ولكن الله عز وجل يفعل ما يشاء ويختار، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، يخلق ما يشاء من غير أسباب، خلق آدم من غير أم ولا أب، وخلق حواء من أب من غير أم، خلقت من ضلع آدم الأيسر، وخلق سائر البشر من أم وأب، وخلق عيسى من أم بلا أب.
ولهذا قال الله للذين قالوا من النصارى: كيف يكون من غير أب؟ قال الله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:٥٩] كيف تستبعدون أن يخلق الله بشراً من أم بلا أب ولا تستبعدون أن يخلق الله بشراً من غير أم ولا أب فهذا أكثر في الاستبعاد ولكنه موجود.
فأراد الله أن يجري عليها هذا الشيء فحملت، قال الله عز وجل: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً} [مريم:١٦] أي: ذهبت إلى مكان بعيد باتجاه المشرق.
وقيل في التفسير: إنها كانت حائضاً فأرادت أن تتطهر منه، فذهبت إلى مكان وكانت امرأة عفيفة متسترة، فاتخذت من دونهم حجاباً لكي لا يراها أحد {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} [مريم:١٧] أرسل الله لها جبريل وتمثل لها بشراً سوياً، فنفخ في جيب درعها (الثوب) فحملت، فلما قرب منها وهي امرأة طاهرة وعفيفة ظنت أنه يريد منها فاحشة أو شيئاً فقالت: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيّاً} [مريم:١٨] استعاذت منه، وهكذا شأن المؤمنة والمؤمن.
وهذا يوسف عليه السَّلامُ لما دعته امرأة العزيز قال: {مَعَاذَ اللَّهِ} [يوسف:٢٣] أي: أعوذ والتجئ بالله، وكذلك المؤمن إذا سمع مكالمة من خبيثة، أو رأى نظرة من خبيثة، أو جاءته رسالة من خبيثة، عليه أن يقول: معاذ الله! أعوذ بالله، وكذلك المؤمنة إذا جاءها شر من خبيث، أو سمعت مكالمة، أو رسالة من خبيث، فعليها أن تقول: أعوذ بالله منك.
فقالت: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً} [مريم:١٨] فقيدته بالتقوى؛ لأن التقي لا يفعل هذا الشيء، فهذا فعل الأشقياء والمجرمين والمنحرفين عن منهج الله عز وجل، فإن كنت تقياً فابتعد.
فقال لها مباشرة بعد ذلك: {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً} [مريم:١٩] قال: أنا مرسل من الله لأعطيك غلاماً قالت: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} [مريم:٢٠] تقول: ليس عندي زوج، ولست بزانية، كيف يكون لي ولد؟ فبين لها الحكمة: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} [مريم:٢١] هذا هو السبب الذي أراد الله من خلق عيسى عليه السَّلامُ أن يكون آية على كمال قدرة الله، على خلق الأشياء من غير أسباب {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً * فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً} [مريم:٢١ - ٢٢].
قال المفسرون: إن حملها كان في نفس الوقت، حملت ووضعت في نفس اللحظة، هذا الذي يرجحه ابن عباس؛ لأنه ليس حملاً طبيعياً بأن حملته (تسعة أشهر) ولكن حملته فوضعته، كما قال الله عز وجل: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً} [مريم: ٢٢] والفاء للتعقيب {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم: ٢٣] المخاض: آلام الولادة، فلما جاءها المخاض وجدت في نفسها من الآلام ما لا تستطيع حمله الجبال؛ لأنها حرة وطاهرة وعفيفة، والحر والطاهر لا يرضى أن يكون له شيء من هذه الأمور، كيف يقابل الناس؟ {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:٢٣] فتتمنى الموت قبل الوضع (وكنت نسياً منسياً) قبل هذا الوضع، ولكن الله عز وجل لا يتخلى عنها؛ لأنها صالحة والله لا يتخلى عن العبد المؤمن إذا كان صادقاً معه، مهما حاك الناس حوله من الترهات، ومهما ألصق الناس به من الأكاذيب والافتراءات، فإذا كان صادقاً ومخلصاً فإن الله يدافع عن الذين آمنوا، فأجرى الله الدفاع عنها في هذا الموقف الحرج على يد هذا الطفل الصغير، قال تعالى: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} [مريم:٢٤] لا مجال الآن للحزن؛ فإن الله قد جعل تحتك سرياً، والسري: النهر الصغير الجاري العذب، قال: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} [مريم:٢٥].
يقول المفسرون: كانت نخلة يابسة ناشفة لا يوجد فيها ثمر، والله عز وجل أجرى لها الماء من أسفل والثمر من أعلى، فكانت تهز فينزل عليها الرطب الجني.
يقول العلماء والأطباء: إن أفضل طعام تتناوله المرأة في ساعات المخاض هو الرطب، فلا تعطها براً وسمناً ورزاً ولحماً، لكن أعطها رطباً تلد بإذن الله، ولا تعطها إبر طلق، لماذا؟ لأن الرطب فيه سعرات حرارية كثيرة تمد المرأة بطاقة تمكنها من عملية المخاض والولادة في حالة سعيدة ولا تحس بالآلام بإذن الله، ما عليك إلا أن تقرب لها الرطب وتقول لها: كلي، فالحبة أحسن من عشر إبر.
لكن بعض النساء حين تشعر بأي ألم تقول: الدكتور، المستشفى، حتى بعض النساء نست الله، وكانت المرأة في الماضي تقول: يا ألله! يا رب! يا رحمان! يا رحيم! وأما الآن فتقول: يا دكتور! يا دكتورة! فتعرضوا في بطونهم فلا يخرج إلا بعملية جراحية، ويخرجونه من بطنها، لماذا؟ لأنهن تركن الاعتماد على الله عز وجل.
من الذي كان يخلص نساء المسلمين من آدم عليه السَّلام حتى زماننا إلا رب العالمين، بعض النساء تلد وهي ترعى وتأتي والمولود على ظهرها تحمله، والبعض تلد وهي تجمع الحطب، والبعض تلد وهي في الحقل والزرع، فالله عز وجل معهن؛ لأنهن مع الله، ويوم أن تركنا الاعتصام بالله وكلنا الله إلى أنفسنا، فتجدها من أول ما تحمل حتى تضع وهي مريضة، وبعضهن تسقط وهي جالسة، لكن يقولوا: اجلسي، لأنها لو مشت خطوتين أسقطت لعدم وجود الصلة القوية والعلاقة العظيمة بالله عز وجل، فهنا يقول الله عز وجل أن عيسى قال