للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[غيث السماء ورسالة الأرض]

الهداية واردة، سيل السماء قد نزل علينا، هاهو كتاب الله بين أيدينا الآن، هو السيل العظيم، وهو الغيث الذي أغاث الله به القلوب، وأنار به العقول، وأحيا به الأمم، أنزل الله علينا نوراً مبيناً؛ يقول الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} [النساء:١٧٤] ويقول تبارك وتعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود:١] ويقول جل ذكره: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [المائدة:١٥ - ١٦] ويقول: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:٢٤].

أنزل الله الغيث من السماء، وبعد ذلك أرسل الله معه النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:١٠٧] {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:١٢٨] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} [الأحزاب:٤٥ - ٤٦].

فجاءت الرحمة المهداة من السماء وهي القرآن، وجاءت الرحمة المسداة من الرسول صلى الله عليه وسلم، القرآن يهدي إلى الله، والرسول يهدي إلى الله، واستجاب من استجاب، وأعرض من أعرض؛ من فتح قلبه للنور والهداية دخل في الإيمان، يقول الله تبارك وتعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ الله} [الزمر:٢٢]؛ ويل لهم ثم ويل لهم ما أصبرهم على النار! كيف يدمرون أنفسهم؟! كيف يحاربون ذواتهم؟! كيف يتعرضون لسخط مولاهم وما هم بصابرين على النار؟! من يتحمل -يا إخواني- جمرة واحدة إذا كانت الجمرة الواحدة من جمر جهنم أعظم من جبال الدنيا بأسرها؟ لما قرأ الرسول صلى الله عليه وسلم قول الله عز وجل: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة:٢٤] قال رجل: (يا رسول الله! أحجارة الدنيا مثل أحجار جهنم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده لصخرة من صخر جهنم أعظم من جبال الدنيا بأسرها) صخرة واحدة أعظم من جبال الدنيا بأسرها، فأين أنت -يا أخي- وكم نسبتك؟ كم تتحمل من عذاب النار؟ لم تعاند الله؟ لم تحارب الله مولاك؟ لم تحاربه وهو قادر عليك؟ ولهذا يقول الله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر:٢٥ - ٢٦] ليس هناك أحد أبداً يعذب مثل عذاب الله، وليس هناك أحد يمسك ويسجن ويقبض مثل سجن الله، كل سجن في الدنيا منها مخرج، آخر شيء أنك تموت ثم تقبر، لكن أين تموت، وأين تهرب من الله؟ {يَقُولُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} [القيامة:١٠] أين المهرب؟ يقول الله تعالى: {كَلَّا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الْأِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ * بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة:١٠ - ١٥].

الهداية -يا إخواني- مطلب، ولكن من الناس من لا يستجيب لها ولا يريدها -يعرض عنها- وإذا وقعت في طريقه عقبة، أو وضع حاجزاً بينه وبين الهداية تركه الله؛ لأن الله ليس بحاجته، الله ليس بحاجة إلى عبادتنا، لم يخلقنا ربنا تبارك وتعالى ليتكثر بنا من قلة، ولا يتعزز بنا من ذلة، ولا لننفعه، ولا لندفع ضراً عنه تبارك وتعالى، بل هو الضار النافع، يقول في الحديث القدسي والحديث في سنن الترمذي وهو حديث صحيح: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا -إلى أن قال- يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني) كم أنت -يا أخي- حتى تضر ربك؟ وكم نسبتك إذا عصيت الله؟ أتظن أنك بالمعصية تبلغ السماوات والأرض؟ المعصية ضدك فقط، والطاعة لك فقط، أما الله فلا تضره معصية العاصين ولا تنفعه طاعة المطيعين، ثم أيظن العاصي أنه يبقى على هذا الوضع إذا دخل النار؟ لا.

وألف لا؛ لأنه لا يتحملها، تأكله النار على مسافة أميال، فالله يضخم جسده ويزيد في طوله وعرضه حتى تجد النار ما تأكل.

ولهذا ورد في الحديث: (إن ضرس الكافر مثل جبل أحد) من منكم ذهب المدينة ورأى جبل أحد؟ جبل كبير من أكبر الجبال في المدينة، الضرس للكافر الواحد مثل الجبل، فكيف الرأس؟ إذا كان الضرس مثل الجبل إذاً كيف الرأس وبقية الجسم؟ ورد في السنن حديث رواه الحاكم في صحيح الجامع قال: (مقعد الكافر في النار مثل ما بين مكة والمدينة) ما بين مكة والمدينة أربعمائة وعشرون كيلو متر! هذا الكرسي للكافر الواحد في النار، وورد أيضاً: أن للكافر سبعة جلود، ما بين كل جلد وجلد مسيرة ثلاثة أيام، وغلظ الجلد الواحد مسيرة ثلاثة أيام، وتبدل هذه الجلود من شدة الإحراق في كل يوم أربعمائة مرة، قال الله عز وجل: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جلودهم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} [النساء:٥٦] لماذا؟ {لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:٥٦] لماذا أورط نفسي في هذه الورطة الكبيرة من أجل ماذا؟ من أجل المعاصي، ومن أجل الذنوب، من أجل قلة الدين.

ثم هل ترى أن صاحب الجنة -جعلنا الله وإياكم من أهلها وزوارها وضيفانها- أنه يبقى هكذا حتى يدخل الجنة؟ لا.

بل تتغير الأمور، مثلما يزاد في جسد صاحب النار لكي تأخذ النار وتبقي منه، أيضاً يضخم في جسد صاحب الجنة لكي يجد نعيماً.

أولاً: السن ثلاث وثلاثون، والحُسن حسن يوسف، والطول طول آدم ستون ذراعاً، والذراع أظنه ثلاثة وثلاثين أو أربعة وثلاثين سنتيمتراً، يعني: أصل المتر ثلاثة أذرع، أي أن طولك عشرون متراً وأكثر، في سبعة أذرع.

وبعد ذلك في الجنة يتنعمون نعيماً ليس بعده نعيم -نسأل الله من فضله- يعطى المؤمن في الجنة قوة مائة رجل في القدرة على النكاح، ويزوجه الله باثنتين وسبعين حورية؛ اثنتين من نساء الدنيا وسبعين ممن أنشأهن الله إنشاء، قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً} [الواقعة:٣٥ - ٣٧] يعني: متحببات {أَتْرَاباً} [الواقعة:٣٧] يعني: سواء {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:٣٨].

وبعد ذلك نعيم ليس مثله نعيم، يقول الله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:١٧] هذه لأهل الجنة.

ولا ينامون، فلا يوجد نوم؛ لأن النوم محرم على أهل النار حتى لا يستريحون من العذاب، وكذلك محرم على أهل الجنة حتى لا يفوتهم شيء من النعيم، فهذا لا ينام فيستريح، وهذا لا ينام فيفوته شيء، كيف ينام؟ ولذلك ورد في الحديث: (إن المؤمن يمكث في الجنة عند زوجته نصف نهار) ونصف النهار من أيامنا يعادل خمسمائة سنة؛ لأن الله تعالى يقول: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:٤٧] اليوم من أيام الآخرة كألف سنة، فيجلس عند الزوجة الواحدة خمسمائة سنة وهو عندها في نعيم، ثم يشرق في الجنة مثل البرق فيقولون: ما هذا؟ فيقال: حورية تبسمت في وجه زوجها، فيرفع رأسه فتقول له الحورية: يا عبد الله! يا ولي الله! أما لنا فيك نصيب؟ تقول: أطلت عند هذه، أما جاء الدور عندنا؟ فينتقل من هذه إلى هذه، وهكذا يدور على زوجاته في الجنة! نعيم في نعيم في نعيم، نسأل الله لنا ولكم من فضله.

يضيع الإنسان هذا النعيم من أجل ماذا؟ من أجل أن يزني بامرأة زانية دانية خبيثة فاجرة؛ فيورط نفسه في ورطة ما بعدها ورطة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من زنى بامرأة في الدنيا كان عليه وعليها في القبر نصف عذاب هذه الأمة) هذا الذي في القبر فقط، إنما هذا فطور مقدم، هذه الوجبة السريعة الخفيفة: (كان عليه وعليها في القبر نصف عذاب هذه الأمة).

وورد في الحديث قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفس محمد بيده إن ريح فروج الزناة ليؤذي أهل النار) وقال عليه الصلاة والسلام: (إن فروج الزناة لتشتعل ناراً يوم القيامة) تتحول إلى لهب ونار، كيف والله تعالى يقول: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:٣٢] وقال تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور:٣] الزنا جريمة تعافها العقول، ولكن قليل الدين؛ الذي ما عنده خوف من الله يمارسها، ويظن أنه مبسوط ولم يعلم أنه مدمر، والله ليس فيه خير؛ لأنه لو كان به خير لاستحى من الذي يراه.

وإذا خلوت بريبة في ظلمة وا