[وفد الأزد وخصال الإيمان والبعث]
يقول سويد بن الحارث رضي الله عنه وهو صحابي جليل من هذه الديار من بلاد الأزد -بلاد الأزد يعني جنوب المملكة - قال فيما يرويه أبو نعيم في الحلية قال: (قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سابع سبعة من أصحابي في وفد الأزد -في سنة الوفود- قال: فلما دخلنا عليه سلمنا، فرد السلام، ثم أعجبه ما رأى من سمتنا) أي: لباسهم وهيئتهم، أعجب النبي صلى الله عليه وسلم هيئة هؤلاء الرجال، كانوا يلبسون العمائم، وكان لهم لحى، وكان معهم عصي، ويلبسون (الجنابي)، ولهم أزر، فكان منظرهم منظراً رجولياً يبعث على الارتياح، فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم هذا المنظر.
(فقال: من القوم؟ قالوا: مؤمنون يا رسول الله!) انتسبوا إلى العقيدة، ما انتسبوا إلى العرقية، ولا القبيلة، ولا اللون، ولا الجهة، ولم يقولوا عدنانيون ولا قحطانيون ولا سعوديون، بل قالوا: (مؤمنون يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: إن لكل قول حقيقة فما حقيقة إيمانكم؟) لأن دعوى الإيمان لا تثبت إلا بالدلائل والبراهين، فما حقيقة الإيمان الذي تدعونه.
(قالوا: يا رسول الله! حقيقة إيماننا خمس عشرة خصلة، خمس أمرتنا رسلك أن نؤمن بها، وخمس أمرتنا رسلك أن نعمل بها، وخمس تخلقنا بها في الجاهلية -أي: عندنا عادات من قبل الإسلام- ونحن عليها اليوم، إلا أن تكره منها شيئاً تركناه) انظروا إلى الرجولة، لم يقولوا لا نستطيع، نحن على عادة الآباء والأجداد، قالوا: إن كان يوافق ما عندك يا رسول الله! عملنا بها، وإن كنت تكره منها شيئاً يرده الدين ويكرهه الإسلام تركناه.
(قال: ما الخمس التي أمرتكم بها رسلي؟ قالوا: أمرتنا رسلك أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالبعث بعد الموت -وهذا هو الشاهد في هذا الحديث: وبالبعث بعد الموت- قال: وما الخمس التي أمرتكم رسلي أن تعملوا بها؟ قالوا: أمرتنا رسلك أن نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وأن نقيم الصلاة، وأن نؤتي الزكاة، وأن نصوم رمضان، وأن نحج البيت الحرام إن استطعنا إليه سبيلا، قال: وما الخمس التي عندكم في الجاهلية -أي: ما هي العادات التي عندكم في الجاهلية ولا تزالون عليها- قالوا: خمس خصال، الأولى: الشكر عند النعماء) إذا أنعم الله علينا شكرنا، فلا نبطر، ولا نتكبر، ولا نتنكر، ولا ننس الماضي، وبعض الناس كان فقيراً يتسول على الأبواب واليوم صار غنياً يتاجر بالملايين، وإذا قيل له: تذكر حالتك الأولى، قال: هذا مال ورثته كابراً عن كابر، لماذا؟ لأنه نسي ما كان عليه، وما كان فيه.
قالوا: (الشكر عند النعماء)؛ لأن المؤمن إذا أنعم الله عليه شكر الله على النعمة، واستعمل النعمة فيما يرضي الله، وتزود بالنعمة في مراضي الله عز وجل، ولم يبطر بها ولم يتكبر، ولم يتعال على الناس من أجلها، وإنما يعرف أن النعمة من الله وأن الله يقول: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ} [النحل:٥٣] فهو المنعم تبارك وتعالى، فإن من شكر نعمة الله أن أشكر الله أولاً، ثم أصرفها في مرضاة مسديها وموليها تبارك وتعالى، لكن الفاجر إذا جاءت النعمة فجر واستعلى بها، وصرفها في مساخط الله، واستعان بها على كل ما يبغضه الله تبارك وتعالى.
(قالوا: الشكر عند النعماء، والصبر عند البلاء) لأن المسلم والإنسان في الدنيا بصفة عامة يتقلب بين النعماء وبين الضراء، الحياة ليست على وتيرة واحدة، الحياة كل يوم لها وضع، والله كل يوم هو في شأن، والناس يتقلبون بين نعم الله وبين مصائبه، والله تعالى يقول: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:١٤٠] تجده اليوم معافى وغداً مريضاً، واليوم مريضاً وغداً معافى، واليوم فقيراً وغداً غنياً، واليوم غنياً وغداً فقيراً، واليوم بيت فيه عزاء وبيت آخر فيه زواج وفرح، وبعد أيام تجد العكس فالبيت الذي كان فيه فرح أصبح فيه عزاء، والذي كان فيه عزاء صار فيه فرح {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:١٤٠].
فيقولون: نحن عندنا هذه الخصلة أننا نصبر عند البلاء، لا نتضجر، ولا نتذمر من قضاء الله، وكلما ابتلانا الله بشيء قلنا: الحمد لله على ما كتب الله، يتمثلون قول الله عز وجل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ} [البقرة:١٥٥] من هم؟ {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:١٥٦ - ١٥٧].
(قالوا: والرضى بمر القضاء) لا نصبر فقط، وإنما نصبر ونرضى، وفرق بين الصابر اضطراراً والصابر اختياراً، فالمصيبة تنزل ولكن الواحد يتقبلها بصدر رحب، ويعلم أنها من اختيار الله عز وجل فيثيبه الله، وآخر تنزل عليه المصيبة فيصبر صبر المضطر، فليس له إلا أن يصبر وإلا ماذا يصنع؟! فيصبر رغماً عنه! فهؤلاء يقولون: (نصبر على البلاء ونرضى بمر القضاء)، أي: نعلم أن هذا هو اختيار الله فنرضى باختيار الله عن اختيارنا.
(قالوا: والصدق في مواطن اللقاء) أي: يقولون: إذا قابلنا أعداءنا لا نعرف إلا المضي إلى الأمام، لا نعرف شيئاً اسمه انسحاب ولا نرجع إلى الوراء، لا نعرف إلا إلى الأمام، إما النصر أو الموت.
قالوا: هذه من شيم الرجال ومن شيم أهل المروءة.
(قالوا: وترك الشماتة بالأعداء) أي: لا تشمت على أحد تكرهه فيعافيه الله ويبتليك؛ لأن الشماتة ليست بيدك؛ فإن ما أصابه قدر والأقدار بيد الله، فإذا ابتلاه الله تأتي أنت وتشمت به، هل أنت الذي قضى عليه؟ هل أنت الذي قدر عليه؟ يا أخي: حتى ولو أنك تكرهه، وكان عدوك، لا تفرح لما أصابه، لا تقل يستحق ما به، لا -يا أخي- بل قل: اللهم عافه يا رب ولا تبتلنا، ولو كان عدوك فلا تشمت به؛ لأنك إذا شمت بعدوك عافاه الله وابتلاك، ونزلت المصيبة عليك أنت، لكن إذا رأيته وقلت: اللهم عافه ولا تبتلنا، عافاه الله ولم يبتلك.
هذه هي الخمس التي عندهم في الجاهلية.
فقال صلى الله عليه وسلم لما سمع خمسهم: (حكماء علماء؛ كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء) فهذه هي شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الرجال: (حكماء علماء؛ كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء).
ثم قال: (وأنا أزيدكم خمساً: إن كنتم كما تقولون فلا تبنوا ما لا تسكنون) أي: أنه يزيدهم خمساً بعد الخمس عشرة، والأولى متحققه فينا كلنا، خصوصاً بعد انسكاب الدنيا علينا، ولكن ما المخرج؟ المخرج أن تسكن فيما بنيت، وإذا وسع الله عليك وزودك بالسكن فاستعمل ما يدخل عليك من هذا السكن في طاعة مولاك جل وعلا، واستعن بما يفتح الله عليك في طاعة الله؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ} [الأعراف:٣٢] ويقول: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:٥١] ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:١٧٢].
فإذا وسع الله عليك بالمساكن، أو بالمآكل، أو بالملابس، أو بالمراكز، أو بالمناكح، أو بالمشارب، أو بأي شيء مما منَّ الله تعالى به عليك فتمتع به، فإن الله لا يريد أن يحرمك منه، بل أنت أولى الناس بالطيبات في الدنيا ولكن بشرط: أن تستعين بهذا المتاع على طاعة الله.
فإذا بنيت عمارة تعمرها بذكر الله فلا تعمرها بمعصية الله، وإذا أعطاك الله جسداً معافى فاستخدمه في طاعة الله، وإذا أعطاك الله منصباً وجاهاً فسخره فيما يرضي الله جل وعلا، حتى تتحول أمورك كلها إلى عبادة، فإذا كنت موظفاً أو مديراً أو مسئولاً ولكنك تتقي الله في عملك فكأنك تعبد الله بهذا العمل؛ لأن بصلاح النية تتحول عادات المسلم إلى عبادات، وبفساد النية تتحول عبادات المسلم إلى عادات، مثل أكثر الناس اليوم يصلي ولكن عادة، يصلي ويخرج ليشهد الزور، يصلي ويفكر كيف يقول شهادة الزور، لماذا؟ لأن صاحباً له قد جاءه وقال: عندي دعوى في الزرع أو المبنى أو المكان وتعرف أنني بحثت عن شهود ولم أجد، وأنت تعرف أن الدنيا يوم لك ويوم عليك، فأنا اليوم أحتاجك وأنت غداً قد تحتاجني، وتعلم أنه لا يوجد زرع ولا غير ذلك لا يوجد إلا وجهي، أريد أن أظهر على هذا الإنسان وأكسب هذه الدعوى، وأنت صاحبي وما ترضى أن تخذلني فتأتي تشهد معي قال: آتي أشهد، ولو أنت كبير في السن؛ لأن كبار السن يعرفون الأماكن والبقاع والحدود، ولو جاء شخص صغير في السن -شاب- لقالوا: أنت صغير ولا تعرف الحدود والأماكن، ولهذا دائماً يقولون: ابحث لك عن شيخ كبير قد تجهز للآخرة فيختم حياته بشهادة الزور والعياذ بالله.
ويقول: أبشر! ويأتي يصلي هذا الشيخ ولا يفارق المسجد ولكنه يشهد الزور، كيف تشهد الزور وقد قرن الله تعالى شهادة الزور بالشرك بالله؟ حيث قال الله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:٣٠] مثل الشرك بالله، وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم عن أبي بكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس! وقال: ألا وقول الزور، ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور قال الصحابة: فما زال يرددها حتى قلنا: ليته سكت!).
فشهادة الزور ليست سهل