[اهتمام الأنبياء بالصلاة]
يذكر الله عن بعض الأنبياء بصفة صريحة ظاهرة الأمر بالصلاة: - إبراهيم عليه السلام: يقول تعالى: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ} [إبراهيم:٣٧] وكان من دعائه: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ} [إبراهيم:٤٠].
- إسماعيل عليه السلام: يثني الله سبحانه وتعالى عليه ويقول: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ} [مريم:٥٤ - ٥٥].
- موسى عليه السلام: وذلك حينما حصل له التكليم من الله عز وجل؛ لأن الله اختصه واصطفاه بالكلام {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:١٤٤] {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:١٦٤] حينما عاد من رحلة العمل التي قضاها في خدمة عمه وهي إجارة عشر سنين مهراً لابنته التي تزوجها {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص:٢٧] ثم قضى أفضل الأجلين وهي العشر سنوات ثم استأذن عمه في أن يعود إلى بلاده وسار بأهله، فلما كان في الطور في سيناء وكانت ليلة باردة ومطيرة وشاتية وكانت زوجته في حال الوضع، والمرأة في حالة الوضع تحتاج إلى الدفء وتحتاج إلى الطعام {فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} [طه:١٠] رأى نوراً فظنه ناراً: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:١٠ - ١٤] هنا الشاهد في أول الأمر (فاعبدني وأقم الصلاة).
عيسى عليه السلام لما حملت به مريم ابنة عمران وكان حملها به بطريقة تختلف عن البشر، أراد الله عز وجل أن يظهر قدرته في خلق الإنسان من غير أب واختار لهذه الآية مريم، وسبب اختيار الله لمريم؛ لأن الله قد عصمها من الشيطان؛ ولأن أمها وهبتها لله وكانت تظن أنها ذكر، فقالت: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران:٣٥] وهبته لله حتى يكون خادماً لـ بيت المقدس ولكنها لما وضعت إذا بها أنثى، والأنثى لا تصلح لأن تخدم بيت المقدس الذي يرتاده الرجال {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ} [آل عمران:٣٦] قال الله تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} [آل عمران:٣٧].
ولهذا ثبت في الصحيح أنه: (ما من مولود يولد إلا ويضربه الشيطان على ضلعه عند خروجه من بطن أمه إلا مريم وابنها) لم يستطع لهم الشيطان؛ لأن الله أعاذهم {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ} [آل عمران:٣٦] من ذريتها؟ عيسى {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} [آل عمران:٣٧].
كان الحمل عن طريق جبريل عليه السلام؛ نفخ في جيب درعها وقالت له حينما جاء: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً} [مريم:١٨ - ٢١] أراد الله بخلق عيسى التدليل على قدرته سبحانه وتعالى على خلق الأشياء من غير ما اعتاد الناس، فإن الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وقد خلق الناس على أربعة أشكال: الشكل الأول: من غير أم ولا أب وهو آدم، قبضه ربنا من التراب وقال له: كن.
فكان آدم من غير أم وأب.
الشكل الثاني: من أب بلا أم، وهي حواء: مخلوقة من ضلع آدم لكن ليس لها أم.
الشكل الثالث: من أم بلا أب وهو عيسى.
الشكل الرابع: من أب وأم وهم سائر البشر، ولهذا يقول الله عز وجل: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران:٥٩] إذا كنتم تستبعدون أن يخلق الله عز وجل إنساناً من أم بلا أب فلماذا لا تستبعدون أن يخلق الله إنساناً من غير أم ولا أب {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:٥٩].
حملته وانتبذت به مكاناً قصياً، حملها ووضعها كله كان في آن واحد ليس في تسعة أشهر، وبعد ذلك قال: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً} [مريم:٢٢] والفاء هنا يسمونها فاء الفجائية وبعضهم يسميها تعقيبية تقول: جاء فلان ففلان ففلان وراء بعض، حملته وانتبذت به وجاءها المخاض وشعرت بالألم ليس ألم الوضع، إنما ألم مواجهة المجتمع بهذا المخلوق الجديد الذي ليس له أب، ماذا تقول للناس؟! فقالت: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:٢٣].
وليس أشق على النفس العفيفة والطاهرة والشريفة من أن تدنس أو يدار حولها أو حول عرضها أي شيء فيتمنى الإنسان العفيف الشريف الطاهر وتتمنى المرأة الطاهرة الشريفة أن تدفن في الأرض ولا يدور حول عرضها شيء، فالعرض غالٍ، والعرض كالتاج على الرأس؛ أي شيء يلوثه يكسره، فرأت وضعها وعانت نفسياً وقالت: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:٢٣] فناداها لما خرج مباشرة وكلمها وهو من الأربعة الذين تكلموا في المهد {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي} [مريم:٢٤] كيف لا تحزن؟! {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً} [مريم:٢٤ - ٢٦].
وفي هذا الوضع النفسي المؤلم يقول لها: (وقري عيناً) وقرير العين هو الإنسان المرتاح الذي يعيش أفضل حياة السرور؛ لأن عين الإنسان المرتاح تقر -أي: هذه السوداء- لكن الذي في قلبه قلق ترى عينيه غير مستقرة، لا عيناً ولا نفساً، ولدها -وهي في حالة نفسية صعبة- يقول لها: قري عيناً، يقول المفسرون: قري عيناً؛ لأنك موضع اختيار من الله لإظهار هذه الآية! وهذا تشريف وتكريم أن يختارك الله من بين سائر العالمين ليظهر عن طريقك آية من آياته وقدرة من قدراته سبحانه! يقول تعالى: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم:٢٦] أي: لا داعي للاعتذار؛ لأن الاعتذار لا يجدي.
ولذلك إذا رأيت التطويل مع شخص في الكلام ليس له نتيجة فكف.
فأي كلام تستطيع أن توجهه للناس وتقنعهم بولدها؟ فالأحسن السكوت والله يدافع عنها: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} [مريم:٢٦ - ٢٧] في الصباح لم يكن معها شيء والآن قد أصبح معها ولد فاستغربوا: {قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} [مريم:٢٧] الفري: الشيء العظيم، {يَا أُخْتَ هَارُونَ} [مريم:٢٨] أخوها من عباد بيت المقدس، ودائماً العروق والأصول السليمة لا تنبت إلا الثمار الطيبة؛ فذكروها بأخيها ثم ذكروها بأبيها وأمها: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [مريم:٢٨] كيف تشذين عن المنهج السوي؟! أبوكِ عابد وأمكِ عابدة وليست بغياً، وأخوكِ عابد، وأنت تعملين هذا؟! {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم:٢٩] لم تتكلم؛ لأنها مأمورة ألا تتكلم، فاستغربوا وقالوا: عجيب! الطفل يتكلم؟! تكلمي أنتِ.
فتكلم الطفل {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم:٢٩ - ٣٠].
هذه أول كلمة قالها وهي تنسف عقيدة أكثر من مليار ونصف نصراني على وجه الأرض الذين يعتقدون أن عيسى ابن الله -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- هو الذي يعرف نفسه ويكذبهم في أول عبارة منه، فيقول: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم:٣٠] لأن الله سبحانه وتعالى ليس له ولد؛ صفة الولد في الرب صفة نقص، وصفة الولد في العبد صفة كمال، الذي عنده أولاد يرفع رأسه، لماذا؟ لأنه يحتاج إليهم إذا كبر ومرض وشاب وهرم، فمن نقصه يحتاج إلى الولد، أما الله فمن كماله لا يحتاج إلى ولد ولهذا يقول الله تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا ي