[السيرة سبب لثبات الدعاة إلى الله]
ومن أهداف السيرة ودراستها: أنها حافلة بمواقف إيمانية، وأحداث عقدية وقفها النبي صلى الله عليه وسلم، ووقفها معه أصحابه لإعلاء كلمة الله، وفي هذه المواقف تقوية لعزائم المؤمنين، وتثبيت لهم للدفاع عن هذا الدين، وقذف الطمأنينة في قلوبهم، وأن لهم سلف وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي السيرة أيضاً كثير من العظات والعبر والحكم التي يعتبر بها المسلم، ويستفيد منها المؤمن؛ لأنها التطبيق العملي الصحيح لدين الله ولشريعته عز وجل.
وفي سيرته صلى الله عليه وسلم دروس عملية لكثير من الناس وهي تتعلق بالابتلاء؛ لأن البلاء سنة كونية أرادها الله عز وجل لتمحيص الناس، حتى يتبين الصادق من المدعي الكاذب، يقول الله تعالى: {ألم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:٢] فابتلى الله الناس بعدة ابتلاءات ومنها: الابتلاء بالأوامر التي فرضها الله علينا، فالتوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج، هل كلها تنفع رب العالمين، ومردودها يعود على الله؟ كلا.
فقد قال تعالى في الحديث القدسي: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً) فالطاعات والتكاليف الشرعية فرضها الله على الناس للاختبار والابتلاء، ولتكون سبباً في دخول الجنة، وحتى يتميز الصادقون عن اللاهين.
كذلك المحرمات التي حرمها الله، فقد حرم الله الزنا، والربا، والخمور، والكذب، فكل هذه من المحرمات، لماذا؟ لتصلح الحياة وليتميز الناس، ليعرف الصادق من الكاذب.
إذا ابتلاك الله بمرض في ولدك أو جسمك أو زوجتك، فهذا نوع من البلاء، ليعلم الله هل أنت صابر أم عبد للعافية فقط، فبعض الناس عبد للعافية، وإذا جاءه المرض أشرك بالله، يقول الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} يعني: بلاء {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:١١] فهو موحد حال العافية، فإذا مرض أو مرضت المرأة، أو الولد؛ ذهب للمشركين، وللكهنة، وللمشعوذين، وإذا قيل له: هذا شرك، يقول: ماذا أعمل؟ فقد ذهبنا للمستشفيات فلم نجد علاجاً، وذهبنا إلى من يقرءون القرآن فما نفعوا، فماذا أعمل؟ أأقعد مريضاً؟ لا.
ومعنى كلامه: إما أن يعافيني ربي، وإما أن أشرك به، والعياذ بالله! فأين العبودية؟ إن العبودية في أن تصبر؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:١٥٦] فإذا جاءك المرض؛ فاسلك الطرق الشرعية للعلاج، فإما أن يكون العلاج عضوياً في المستشفيات أو نفسياً أو معنوياً عند القراء الذين يقرءون القرآن والسنة فقط.
أما أن تذهب إلى كاهن، أو ساحر، أو مشعوذ، أو كذاب، أو عراف؛ فتصدقه فيما قال فعند ذلك تكون قد كفرت، والحديث في صحيح مسلم: (من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد، ومن أتاه ولم يصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوماً) بمعنى أنه لو مات في فترة الأربعين يوماً، يموت على غير الإسلام -والعياذ بالله- فهذا المرض بلاء.
كذلك الفقر: فالذي قسم الأرزاق بين العباد هو الله، يقول الله عز وجل: {نَحْنُ قَسَمْنَا} [الزخرف:٣٢] (نحن) هنا، من؟ أي: الله، مرسوم رباني، و (قسمنا) بصيغة الماضي، يعني: المسألة مقسومة ومنتهية: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:٣٢] فالله جعل هذا غنياً وهذا فقيراً، فابتلى الله الغني بالمال، والفقير بالفقر، فماذا يحصل عندك إذا كان الله ابتلاك بالفقر؟ عليك أن تصبر، أما أن تتضجر وتتسخط وتقول: ما بالي أنا من دون الناس؟ الناس كلهم أغنياء إلا أنا، إذن فخذ رزقك بالقوة إن استطعت إلى ذلك سبيلاً، فهذا لا يصح، وما معك إلا الفقر، والفقر مقسوم لك، رضيت أو لم ترض، لكن الرضا يعوضك في آخرتك، وإلا فقد كتب رزقك، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها) فالرزق أمر مفروغ منه، وما على الناس إلا السعي فقط، يقول عليه الصلاة والسلام: (فاتقوا الله وأجملوا في الطلب؛ فإن رزق الله لا يرده كراهية كاره، ولا يجلبه حرص حريص) فإذا ابتلاك الله بالفقر فارض بما قسمه الله لك مع أخذك بالأسباب، ولا تستسلم، وتقول: أنا فقير وسأنام، لا.
بل اعمل واطلب الرزق من الله عز وجل، واسترزق الله، ولكن بعد ذلك ارض بما قسم الله.
وأفضل وسيلة لطلب الرزق أيها الإخوة! هي التقوى والاستغفار، يقول عليه الصلاة والسلام: (من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق فرجاً، ومن كل همٍ مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب) فعليك إذا ما أتاك رزق في ذلك اليوم أن تقول: أستغفر الله! أستغفر الله! أستغفر الله! استغفر طوال يومك، وإذا ما أتيت إلى السوق تريد أن تعمل والعمال كثر، والطلب قليل، فاقعد واستغفر الله، فما تبرح حتى يرسل الله إليك من يكون سبباً في رزقك ذلك اليوم، لماذا؟ لأنك استغفرت ربك، فهنيئاً لك الرزق، وقد تستغفر ولا يأتيك رزق؛ لأن بعض الناس يدعو ويستغفر ويريد أن يختبر الله، فإن رزقه وإلا أمسك عن الدعاء والاستغفار، فأنت بهذا ما استغفرت من أجل الله، بل استغفرت من أجل المال، والله علم أن نيتك ليست خالصة له فما آتاك الرزق، لكن لو أنك استغفرت وعلم الله صدقك لرزقك؛ لأن الله يعلم ما في قلبك، ويعلم الموحد من المشرك، والصادق من الكاذب، والمخلص من المرائي، فهو يعلم السر وأخفى، أي: يعلم السر الذي في نفسك ولا يعرفه إلا أنت، ويعلم ما هو أخفى من السر والذي ستعرفه فيما بعد، فالله يعلمه وأنت ما علمت به بعد، فلا إله إلا الله! فيكون البلاء بالمرض، وبالفقر، وبالغنى، وبالزوجة والأولاد: {لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام:١٦٥] فهذا كله بلاء.
فعلى المسلم إذا درس السيرة أن يأخذ العبرة، ويتأسى، ويعرف أنه لا بد له من البلاء، ولا بد للبلاء من صبر.