[غض البصر]
هناك خمسة أسباب ذكرها ابن القيم رحمه الله في كتابه الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، وهو ينقل عن أحد السلف واسمه شجاع الكرماني وكان من أعظم عباد الله بصيرة، كان له فراسة وبصيرة نافذة يقول: من غض بصره عن الحرام، وكف نفسه عن الشهوات، وعمر باطنه بالتقوى، وعمر ظاهره بالسنة، وأكل الحلال، لم تكد تخطئ له فراسة، وفتح الله بصيرته.
قال ابن القيم رحمه الله: لما غضضت بصرك جازاك الله من جنس عملك، ما هو عملك؟ غض البصر، فماذا حصل؟ فتح بصيرتك، إذا أنفقت مالك يجازيك الله من جنس فعلك، ماذا يعطيك الله؟ تنفق مالاً يرد الله عليك أكثر مما أنفقت، يقول عليه الصلاة والسلام: (من ترك شيئاً لله -ماذا يعطيه الله؟ - عوضه الله خيراً منه) ما تترك شيئاً لله إلا والله يعطيك أفضل منه، تركت البصر من أجل الله ففتح الله لك البصيرة من أجله، فأنت عندما تغض بصرك عن الحرام ماذا يحصل لك؟ يفتح الله بصيرتك، فتصبح تنظر بنور الله، ويحبب الله لك الإيمان، ويزينه في قلبك، ويكره إليك الكفر، والفسوق، والعصيان، ويجعلك الله من الراشدين، تحب القرآن، تحب المساجد، تحب أهل الخير، تحب الصلاة، تحب حلق الذكر؛ فتصير عندك طاقة، ويصير عندك إيمان وإقبال، ويصير عندك توجه كبير، لماذا؟ لأن الله فتح بصيرتك، وبعد ذلك يحفظك الله عز وجل عن الوقوع في المعاصي؛ فتكره سماع الأغاني، وإذا رأيت امرأة لا تريد أن تنظر إليها، وإذا كان هناك حرام فيحفظك من الذهاب إليه، يضيق صدرك من الحرام، تضيق مذاهبك من الشر، لماذا؟ فتح الله بصيرتك، عندما غضضت بصرك عن الحرام، ولهذا قال الله في القرآن في سورة النور: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:٣٠] أزكى لك أن تغض بصرك، قال العلماء: أزكى لأسباب؛ لأن فيه اثنتي عشرة فائدة، أعظم فائدة وأجل فائدة: أنك امتثلت أمر الله؛ لأنه لا توجد أي قوة في وجه الأرض تستطيع أن تضبط بصرك إلا قوة الله.
بإمكان الإنسان أن ينظر في عمارة وهذه العمارة قد يكون فيها شباك، وفي الشباك امرأة متبرجة فينظر لها ويمتع عينه بها، ويأتي صاحب البيت أو أحد الناس من أهل الخير، يقول: اتق الله، لا تنظر إلى المرأة، فيقول: أنا لا أنظر إلى المرأة، أنا عندي عمارة وأريد أن أشتري ألمنيوم مثل الذي في الشباك، ويقول للرجل: نظرتك بعيدة، أنا لا أريد النساء، لكن الله يعلم أنك تنظر إلى المرأة، من الذي يعلم؟ {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:١٩] قد تتظاهر أمام الناس أنك تغض بصرك لكنك تنظر شزراً هنا وهناك، ربي يعلم ماذا في قلبك.
فإذا غضضت بصرك كان هذا دليلاً على مراقبتك لله، وعلى امتثالك لأمر الله، وعلى شعورك بمراقبة الله، وعلى علمك بأن الله ينظر إليك، هذا هو الإيمان، وهذا هو الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه) فهذه أعظم فائدة.
من فوائد غض البصر: أن القلب يبقى سليم.
لأن القلب سليم إذا سلم من قنوات الشر، سليم إذا نظرت العين إلى الحلال، لكن إذا نظرت إلى الحرام فهو سهم في القلب، وإذا سمعت الحرام فهو سهم في القلب، وإذا بطشت في الحرام فهو سهم في القلب، ويبقى القلب مطعون من كل جهة، ولذلك بعض الناس الآن قلبه ميت قد طعنه حتى أهلكه، طعنة بالغناء، وطعنة بالزنا، وطعنة بالنظر، وطعنة بالربا، وطعنة باللواط، وطعنة بقطع الصلاة؛ وطعنات من كل جانب، فيبقى القلب مسكيناً من أين تأتيه العافية والسموم تأتيه من كل جانب؟! أما قلب المؤمن كالملك على العرش، جالس محفوف بالعناية والجند من حوله، والأبواب كلها مغلقة، إذا جاء الشيطان يدخل من عند العين قالت العين: ارجع لا تدخل من عندي، يأتي من عند الأذن، تقول الأذن: ارجع لا تدخل من عندي، يأتي من عند اللسان فيقول: لا يدخل من عندي، يأتي من عند الفرج فيبقى القلب سليم مائة بالمائة.
لكن قلب العاصي مسكين معذب من كل جهة وطريق، فأول فائدة بعد امتثال أمر الله عز وجل أن القلب يبقى سليم؛ لأن النظر سهم كما جاء في الحديث الذي في مسند أحمد: (النظر سهم مسموم من سهام إبليس من تركه مخافة الله أبدله الله إيماناً يجد حلاوته إلى يوم يلقاه) والناظم يقول:
وأنا الذي جلب المنية طرفه
يقول: أنا الذي جلبت الموت لقلبي عيني.
فمن المطالب والقتيل القاتل
ويقول:
وأنت إذا أرسلت طرفك رائداً لقلبك أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر
فأنت تنظر إلى أشياء لا تقدر عليها ولا تصبر عنها، وطريق السلامة أن تغض بصرك.
في غض البصر كلفة وفيه معاناة ومشقة، لكنها أخف بملايين المرات من معاناة النظر، النظر سهم يحرق القلب، والقلب إذا احترق قوي جندي الشيطان، وإذا قوي جندي الشيطان ونظرت جاءت النظرة الثانية؛ لأن الله يقول: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة:١٦٨] ما قال خطوة بل خطوات، النظرة الأولى خطوة، ثم كلمة، ثم بسمة، ثم كلام، ثم سلام، ثم موعد، ثم لقاء، ثم زنا، ثم جهنم، بدأت بالنظر وانتهت بالنار، يقول الناظم:
كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسر ناظره ما ضر خاطره لا مرحباً بسرور عاد بالضرر
ولذلك الذين يغضون أبصارهم الآن مرتاحين، الشاب المؤمن الذي يغض بصره فهو في ألف راحة، لا يعرف إلا زوجته، كلما رأى شيئاً توقف، يقول: "النافذة التي يأتيك منها الريح سدها واستريح" عينك يأتيك منها ريح الزنا كل يوم أقفلها واسترح، لكن تنظر وتنظر وتنظر يحترق قلبك وأنت لم تجد أي شيء، وإن لقيت شيئاً لقيت الحرام ولعنة الله وغضب الله وسخط الله، يقول الله تعالى: {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} [النور:٣٠] الإنسان يصبر على مرارة غض البصر من أجل أن يفتح الله بصيرته على النظر إليه في الجنة {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:٢٢ - ٢٣] كما أنك الآن تصبر على ألم الإبرة إذا جاء الممرض يدفع إليك بالعلاج في عضلتك أو في الوريد هل أنت تحس براحة، أم بألم؟ ولهذا بعضهم يغمض عينيه منذ أن يبدأ الدكتور بضرب الإبرة، لكن يصبر على ضربة الإبرة ثم يفركها الممرض بالقطنة وينساها لماذا؟ دخلت العافية، نحن كذلك في طريق الإيمان نغض أبصارنا ونصبر من أجل ما عند الله، أما أن أفتح عيني وأنظر والله يغضب عليَّ، ويمقتني، ويحرق قلبي، ويسخط عليَّ، ويحرمني من النظر إليه في الجنة، ثم لا أستفيد شيئاً إلا غضب الله، لا.
لا بد -أيها الإخوة- من غض البصر.
ومن فوائد غض البصر كما قال ابن القيم رحمه الله في كتابه الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي يقول: أنه يورث القلب أنساً بالله؛ لأن إطلاقه يشتت القلب ويفرق القلب ولا يبقى القلب مجموعاً على الله، وإنما موزعاً بين المناظر التي رآها، وهذه من أعظم آفات القلب.
وكذلك أن غض البصر يورث القلب نوراً يقذفه الله عز وجل، وإطلاقه يورثه ظلمة؛ لأن المعصية ظلمة والطاعة نور، فإذا أطعت الله نوّر الله قلبك، وإذا عصيت الله أظلم الله قلبك -والعياذ بالله- ولهذا ذكر الله عز وجل هذه الآية -آية النور- عقب الأمر بغض البصر في سورة النور لما أمر بغض البصر قال: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور:٣٥].
أيضاً: يورث المؤمن فراسة، والتي نسميها البصيرة؛ لأنك يوم أن غضضت بصرك من أجل الله فتح الله بصيرتك على كل ما يحبه الله ويرضاه، وإنما يجازيك الله عز وجل من جنس فعلك.
وأيضاً: فإن النظر إلى الحرام يحول القلب إلى محل لإلقاء القاذورات فيه، فلا يصلح أن يكون محلاً لكلام الله، ولا يصلح أن يكون محلاً للإيمان بالله، لماذا؟ لأنه أصبح مثل الزبالة لا يقع فيه إلا الحرام والخبث، فإذا جاء الكلام الطيب لا يستقر، وإذا جاء النظر الطيب لا يستقر، فإذا أردت أن يكون قلبك محلاً لما يحبه الله ويرضاه فطهر عينك من النظر إلى ما حرم الله عز وجل، أما إذا نظرت فإنك تتمتع ولكن متاع عاقبته مرض القلب -والعياذ بالله- وما والله وجدنا -أيها الإخوة- أنفع للمسلم من غض البصر، ولو كان فيه صعوبة بسيطة لكن مع الزمن يتغلب المسلم عليه حتى يهديه ويشرح الله صدره وينور قلبه، ولا يعد له رغبة في أن ينظر إلى ما حرم الله تبارك وتعالى.