كان النبي صلى الله عليه وسلم إزاء هذا التكذيب، وهذا الرفض والاستهزاء والإيذاء والمحاربة يكاد قلبه يتفطر؛ لأنه ليس أصعب على النفس البشرية من أن تكذب وهي صادقة، فلو أتيت بخبر إلى الناس تقول: إني رأيت بسيارة مقلوبة بسبب حادث فقالوا: كذاب.
ما رأيك؟ ماذا تفعل؟ يتقطع قلبك، تقول: كيف كذاب؟! قالوا: كذاب كذاب، تقول: رأيت بعيني، يقولون: كذاب ماذا يحصل لك؟ وما هي ردة الفعل عندك؟ صعبة جداً لا تتحملها.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم يوحى إليه، والكفار يقولون: هو من الجن، ولو تيقنا أنه من الجن لعالجناه، وإن كان هذا الذي يأتيه خبال داويناه سبحان الله! صادق مصدق يأتيه الوحي من السماء بالقرآن المبين، ومع هذا يكذب! فكانت نفسه من داخله تتقطع أسىً وحسرة، ويعزيه الله عز وجل ويقول له:{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً}[الكهف:٦] أي: لعلك مهلك نفسك؛ تريد أن تقتل نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا القرآن لا عليك:{فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}[فاطر:٨]{وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ}[لقمان:٢٣]{فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا}[الزخرف:٨٣]{ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ}[الحجر:٣] اتركهم {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}[الغاشية:٢٥ - ٢٦].
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، كان يتألم أن يكون هؤلاء في النار، كان يريد أن ينقذهم من النار، ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم:(مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، فجعلت الفراش تتقحم في هذه النار وأنا آخذ بحِجزكم) أي: أنا أبعدكم عن النار وأنتم تتزاحمون للوقوع فيها، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد.
ما أرحم هذا النبي! {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:١٠٧] فتأتي هذه الآيات في سورة النساء لتثبته، وتشعره بأنه نبي، وأنه يوحى إليه، وأن هذا الوحي ليس خاصاً به، وإنما سبقه فيه سلسلة من الأنبياء ممن اختارهم الله عز وجل، وجعلهم وسطاء وسفراء بين السماء والأرض، فاصطفاهم الله عز وجل، قال تعالى:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}[الأنعام:١٢٤] الله يصطفي ويختار؛ فاختار هؤلاء الأنبياء ليكونوا رسلاً يهدون الناس.