يشكو عليَّ أحدهم فيقول: ثم ماذا يا شيخ؟! أنا كل يوم في ندوة، فمرة عند الشيخ عائض القرني وليلة أخرى في ندوة المسجد هذا، وأسمع المواعظ ثم ماذا أعمل؟ قلت له: هل حفظت القرآن؟ قال: لا.
قلت: وهل عرفت شيئاً! وأنت تجلس عند الشيخ القرني طوال سنة ونصف؟ وهل حفظت حديثاً بسنده وبجميع تفاصيله وأقوال العلماء فيه وشروحه وأحكامه ومستنبطاته؟ فقال: لا.
قلت: أنت الآن تريد أن تتجاوز أكثر من وضعك، أول شيء في مراحل التكوين الإيماني للمؤمن هو التدعيم بقوى العلم، وأنتم تعرفون عندما تقرءون سير السلف من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ومن التابعين وتابعي التابعين، ومن الصالحين، ومن أئمة الدين إلى يومنا هذا، أول ما يبدأ الإنسان في بناء نفسه عن طريق العلم فيحفظ القرآن كله، ولا نريد حفظاً كما يحصل الآن في بعض مدارس تحفيظ القرآن الكريم يحفظون في المدارس الرسمية أو المدارس الخيرية وينسون، مثل القربة تصب فيها من الأعلى وهي مخروقة من الأسفل، فلو جلست تصب فيها من يوم خُلقت إلى أن تَموتَ لا تجد فيها قطرة؛ لأنها مخروقة.
فكثير من الناس يحفظون وينسون، لكن الجد كل الجد في أن تحفظ وتحتفظ، تحفظ السورة وتحتفظ بها، ولا تحتفظ بالسورة إلا إذا داومت عليها وأكثرت مراجعتها وكررتها، ثم بعد أن تكمل القرآن تظل باستمرار الحال مرتحلاً؛ ترتحل من آخر القرآن وتحل في أوله، وما دمت على هذا الوضع مع القرآن، يزداد إيمانك، وتتنور بصيرتك، ويثبت الله قدمك، ويجعل الله لك مجالاً في دين الله عز وجل لا يمكن أن تتصوره إلا عن طريق القرآن الكريم، أما أن تسأل وتقول: وبعد ذلك ماذا أعمل؟! وأنت ما حفظت ولا جزءاً واحداً من القرآن الكريم؟ فهذا دليل على أنك ما فهمت إلى الآن ما هي مقومات بنائك الإسلامي.
ابدأ! أولاً: إن كنت قد حفظت القرآن ممن يسر الله لك الحفظ في مدارس تحفيظ القرآن الكريم فراجع محفوظاتك، وإن كنت لم تحفظ القرآن فابدأ بحفظ المفصل من سورة (ق) إلى سورة الناس، ابدأ بحفظ المفصل حفظاً جيداً واستوعبه حتى تهضمه بحيث يكون زادك الذي تقرأ به في كل مناسبة؛ لأن بعض الشباب تقول له: صل بالناس في صلاة الفجر يقول: لا أدري ما أقرأ، لا يدري ماذا يقرأ من القرآن! وإن كان قد حفظ فليس حفظاً متقناً وما حفظه ينساه.
فلا بد أن تستوعب المفصل كاملاً، ثم بعد ذلك تراجع تفسيره في أشهر التفاسير وأيسرها ومختصرها بحيث تعرف أحكامه، وتعرف أسباب نزوله، وتعرف مكيه من مدنيه، وتعرف الآيات التي تدل على أحداث معينة، بعد ذلك إذا أردت المزيد وكان عندك طاقة أكبر خذ البقرة وآل عمران، ثم انتق من السور، ألا تستطيع أن تحفظ مثل سورة الكهف والإسراء ومريم وطه وغافر ويس والصافات والدخان وجميع السور التي وردت فيها فضائل معينة؟ احفظها، فإذا حفظت كل هذه السور بقي عليك عملية تربيط بينها، بحيث السورة التي حفظتها هنا وهذه ما حفظتها تربط بينها بسورة واسطة وبعد فترة من الفترات ستجد نفسك بعد سنتين أو ثلاث أو أربع أو خمس سنوات وإذا بك حافظ للقرآن الكريم عن ظهر قلب، لكن إن بقيت على الوضع هذا بدون محاولات ستمر عليك عشرات السنين وأنت على عهدك ما تغيرت ولا حفظت شيئاً، ومرت عليك السنون، وضيعت عمرك في غير فائدة، هذا بالنسبة للقرآن الكريم.