للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الصاخة]

من الأسماء أيضاً: (الصاخة).

يقول عز وجل: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:٣٣ - ٣٧].

يقول عكرمة: الصاخة التي تصخ القلوب والأسماع.

أنت الآن إذا سمعت صوتاً خفيفاً لا تتأثر به، لكن إذا سمعت صوتاً هائلاً مرعباً يكاد يفجر أذنيك، ويطير قلبك فزعاً منه؛ فإنك تخاف وتفزع منه، هذه من أسماء يوم القيامة؛ لأن أحداثها وأهوالها تصخ القلوب، وتفجر الأسماع والأذان، والتعبير بها أيضاً فيه نوع من القوة في البلاغة والبيان، يقول عكرمة: (الصاخة) هي التي تصخ القلوب، وهي النفخة الأولى التي يسمعها الخلق كلهم فيموتون وتتقطع قلوبهم في أجوافهم، وهو معنى قول الله عز وجل: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الزمر:٦٨] يصعق أي: يموتون كلهم من تلك النفخة.

وعكرمة هذا تابعي، ونأخذ جزءاً من سيرته العطرة، فهو تابعي وحافظ وعلامة ومفسر لكتاب الله عز وجل، وكان مولىً لـ ابن عباس، مولى أي: عبد مملوك لـ عبد الله بن عباس، وأخذ عنه العلم، وحدث عن جمع كبير من الصحابة وحدث عنه خلق كثير، أجازه ابن عباس في الإفتاء، وكان مولى عنده، وقال له ابن عباس في يوم من الأيام: [انطلق فأفت الناس -يقول: اذهب فإذا سألك أحد فأفته- وإذا سألوك عن أمر مشكل فأنا لك عون] يقول: إذا أشكل عليك من الأمور شيء فأنا لك عون، قال عكرمة وهو معتد بعلمه ويريد أن يطمئن ابن عباس إلى أنه أهل للفتيا، قال: والله لو كان الناس ومثلهم مرتين لأفتيتهم، قال: انطلق.

أي: اذهب ما دام أنك على هذا المستوى.

أيضاً مما يحكى عنه أنه كان رجلاً طويلاً، له عمامة بيضاء، ولحيته بيضاء، ويلبس أرديةً بيضاء، رضي الله عنه، قال عنه شهر بن حوشب: لم يكن في الأمة حبر إلا هذا الرجل -يعني: ابن عباس - وإن مولى ابن عباس -يعني: عكرمة - هو حبر هذه الأمة.

وقال عنه ابن عباس نفسه: [ما حدثكم عني عكرمة فصدقوه؛ فإنه لم يكذب عليَّ في حياته مرة قط] الله أكبر! سبحان الله! هذه الأخلاق عندهم، عبد مولى يشتغل عنده ويقول عنه: [ما حدثكم عني فصدقوه؛ فإنه لم يكذب عليّ مرة قط].

وقيل لـ سعيد بن جبير: تعرف أحداً أعلم منك في الأرض؟ قال: نعم عكرمة.

ويقول عنه الشعبي: ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة رضي الله عنه.

ويقول عنه قتادة: كان أعلم التابعين أربعة: عطاء وكان عالماً بالمناسك وسعيد بن جبير في التفسير، وعكرمة في السيرة، والحسن البصري كان أعلم الناس في عهده بالحلال والحرام رضي الله عنهم.

وعطاء هو: عطاء بن أبي رباح، كان رجلاً قصير القامة، مشوه الخلقة، أسود البشرة، بحث عن مصدر للرزق فلم يجد، وكان كلما ذهب إلى عمل طرد، لا جسم ولا لون، فدخل على أمه في يوم من الأيام وقال لها: ما لقيت رزقاً ولا مصدر عمل.

قالت له: ألا أدلك على عمل إذا عملته هابتك الملوك، وانقاد لك به الصعلوك، فتعجب الرجل! وقال: الملوك يهابونني! أنا ما لقيت لقمة عيش الآن! كيف يهابني الملوك؟! قالت: نعم.

يهابك الملوك إذا عملته.

قال: ما هو؟ قالت: عليك بالعلم.

فأخذ قلمه ومحبرته ونزل مكة، وعكف على العلم، فحفظ كتاب الله، ثم حفظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم آلت إليه الفتيا في عصره، فلا قول إلا قول عطاء، الأمة الإسلامية من شرقها إلى غربها إذا اختلفت في أمر، قالوا: ماذا قال فيه عطاء؟ حج أحد الخلفاء، فلما حج ودخل مكة سأل عن أعلم أهل الأرض؟ قالوا: عطاء، قال: أين هو؟ قالوا: في بيته، قال: احضروه إليَّ، فلما أرسل له قال: إن كان لك حاجة فيما عندنا فتعال، أما أنت فليس لنا حاجة فيما عندك، -يقول: الذي عندك لا نريده، والذي تريده عندنا! - قال: لقد أنصف عطاء، فلما جاء إلى بيته، وكان جالساً يصلي، طرق الباب، فنزل إليه ولده، وإذا بأمير المؤمنين، ورجاله، وخيله بالباب، فذهب إلى أبيه يقول له: أمير المؤمنين بالباب، وكان يصلي ركعتين فانتهى من الصلاة، وزاد ركعتين، ثم انتهى، وقعد يدعو، وذاك واقف عند الباب، وبعدها بفترة، قال له: ائذن له، فدخل فلما دخل غضب الأمير وقال: ما هذه الإهانة يا عطاء!؟ قال: أي إهانة تعني يا أمير المؤمنين؟ قال: دعوناك فلم تأتنا وجئناك فلم تأذن لنا، قال: أما دعوتك لي وعدم مجيئي فقد أخبرتك، ما لي حاجة فيما عندك، وإذا كان لك حاجة فيما عندي أتيت، أما عدم دخولك وعدم الإذن لك فإني كنت بين يدي من هو أعظم منك فكرهت أن أقطع مقابلته لمقابلتك، فلما فرغت من مقابلته فتحت لك، فسأله بعض المسائل فأجابه، فلما ذهب أرسل واحداً من صبيانه بصرةٍ فيها عشرة آلاف دينار، فلما أعطاه ركلها برجله وطرده بها وقال: ردها وقل له: ندله على ما ينجي، ويدلنا على ما يُفني.

نعطيه النجاة، ويعطينا الهلاك، يعني: الدنيا، يقول الخليفة: والله ما رأيت نفسي ذليلاً في حياتي إلا بين يدي هذا العبد، خليفة وملك يقول عن نفسه: أنه ما رأى في يوم من حياته ذلة إلا بين يدي هذا العالم العظيم.

وهذا معنى كلام أمه: هابتك الملوك وانقاد لك به الصعلوك.

وكان أعلم الناس في الفقه والمناسك وغيرها.

قال حبيب بن أبي ثابت: اجتمع عندي خمسة -اجتمع في بيتي في مناسبة عشاء خمسة- قل أن يجتمع مثلهم على طعام واحد في الدنيا كلها -من هم الخمسة؟ - قال: عطاء بن أبي رباح، وطاوس اليماني، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة -خمسة من رءوس التابعين- يقول: فأقبل مجاهد وسعيد يلقيان التفسير على عكرمة فما سألاه عن آيةٍ إلا فسرها يناقشونه وهم قمم، من نماذج البشر القلائل في هذه الحياة.

قال الثوري: خذ التفسير عن أربعة: سعيد، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك.

لقيه عالم اسمه سليمان بن الأحول ومعه ولده، قال له: أيحفظ هذا من حديثك شيئاً يا عكرمة؟ يظن أن ولده مثله، يقول: أيحفظ هذا من حديثك شيئاً؟ قال: ألا تعلم أنه يقال: أزهد الناس في عالم أهله، هذه كلمة قالها وقيلت قبله وهي حقيقة، أن أزهد الناس في عالم، وداعية، وفاضل أهله، تجد بعض الناس في أرض بعيدة يتمنى أن يراه بعينه، وبعضهم يتمنى أن يجلس معه لحظة، وتجد ولده أو زوجته أو بنته تضيق منه ولا يريدون أن يقعد معهم، نعم: أزهد الناس في عالم أهله، يعني: كأنه يقول ولدي هذا لا يعرف من حديثي شيئاً، وليست قاعدة مطردة فقد يكون من الأولاد من هو على منهج والده ويسير على خطاه، ويأخذ عنه العلم، والفضل، ويسير مثله في منهج الدعوة، ويرث هذه التركة العظيمة، فإن خير ما يورث في هذه الدنيا العلم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر) لأن العلم هو نور المجد والحياة في هذه الدنيا، والناظم يقول:

ففز بعلم تعش عزاً به أبداً الناس موتى وأهل العلم أحياء

العالم لا يموت بل يحيا يوم يموت، ابن القيم هو الآن ميت أم حي؟ حي لا يمر يوم إلا ويذكر اسمه، ولا يُقرأ كتاب له إلا ويُقال: قال المؤلف رحمه الله، وما يذكر في مكان إلا ويقال: غفر الله له، فهو حيٌ بذكره وإن كان قد مات، لكن أصحاب الأموال ماتوا، وبعد أن ماتوا تقاسمها أولادهم ونساؤهم، بل لعلهم لا يدعون لهم، بل ربما ولده يدعو عليه، ويقول: ألهب الله عظامه ما حاول أن يشتري لنا أرضية على الشارع العام، ولا اشترى لنا مزرعة يوم أن كانت الأراضي رخيصة الثمن، فما استغلها تلك الأيام، بل ضيع الفرص، أبونا هذا غافل، وهو قد أعطاهم خيراً، لكن ما يريدون منه إلا الدنيا، لا حول ولا قوة إلا بالله! وكان عكرمة سريع البديهة، ذكياً جداً، شكا إليه شخص وقال: قذفني فلان في المنام.

قال: إذا وقف في الشمس اضرب ظله، واجلده ثمانين سوطاً.

انظر كيف التعبير الذكي، يقول: إن فلاناً قذفني في عرضي، وأنا نائم.

قال: إذا وقف في الشمس ورأيت ظله فاضرب ظله ثمانين سوطاً.

يعني أنك تضرب شيئاً غير حقيقي كما أنه ما قذفك حقيقةً، هل الإنسان يملك أنه يرى رؤيا؟ هل الإنسان يحدد الرؤيا وهو يراها؟ لا.

ولذا الرؤى أمرها مشكل عند كثير من الناس.

جاءني أحد الإخوة يقول: رأيت فلاناً من الناس يشرب الدخان، والرجل الذي رؤي أنه يشرب الدخان رجل فاضل ولا نزكي على الله أحداً.

فقلت: ما رأيك؟ قال: أظن أنه لا خير فيه.

قلت: لماذا؟ قال: لأني رأيته يشرب الدخان.

قلت: هل أنت تعمدت أن تراه يشرب الدخان.

قال: لا.

قلت: هل هو تعمد أن تراه وهو يشرب الدخان؟ قال: لا.

قلت: هل له ذنب أنك رأيت هذه الرؤيا؟ قال: لا.

قلت: هل يؤاخذه الله على رؤيا أنت رأيتها؟ قال: لا.

قلت: إذن، لماذا تحكم أنه ليس فيه خير، لعلك أنت ليس فيك خير؛ لأن الرؤيا منك، الناس يقاسون ويوزنون على ضوء تصرفاتهم وأعمالهم لا على ضوء ما يُرى لهم، لعل الشيطان يريد أن يزعزع ثقتك في أخيك المسلم، فجاءك في صورته، ومعه سيجارة من أجل أن تراه فتك