للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الجزء الثاني: الروح]

وهذه الروح هي الطاقة المشغلة لجهاز الجسد، فما دامت الروح موجودة في الجسد فإنه يعمل، وإذا ما خرجت الروح يتوقف الجسد عن العمل؛ مثل التلفاز عندما ينقل الصورة، يعمل عن طريق طاقة الكهرباء، إذا فصلنا الكهرباء لا يعمل، رغم أن الشاشة موجودة واللاقط موجود، والعدسة التي تنقل الصورة موجودة، لكن فصلنا الطاقة التي تشغل كل هذه الأجهزة.

وكذلك الجسم الجسم موجود، لكن إذا خرجت الروح التي كانت تشغل هذا الجسد توقف، ولهذا تسمعون عن عمليات زرع الأعضاء، تخرج الروح من جسد إنسان فيأخذون قلبه ويزرعونه في قلب إنسان آخر لا تزال الروح فيه، فيشتغل القلب في الإنسان الجديد، رغم أنه قد توقف في الإنسان الأول، ما الذي أوقفه هنا؟ عدم وجود المشغل وهي الروح، ولماذا اشتغل هناك؟ لأن الروح موجودة إذاً الحياة ليست في القلب، الحياة في الروح، وكذلك الكليتان؛ تؤخذ من الشخص الذي يراد نزع الكلية منه وقد توقف، فيأخذونها ويضعونها في إنسان حي فتعمل، من شغلها؟ إنها الروح.

إذاً ما هي الروح؟! هذا شيء استأثر الله بعلمه، ولم يخض فيه حتى سيد البشر صلوات الله وسلامه عليه، ولما سأله اليهود عن الروح فوض أمره إلى الله وقال: حتى أتعلم من ربي، وجاءه الجواب من الله عز وجل في سورة الإسراء: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:٨٥].

ولما استأثر الله بعلم الروح بقي الناس إلى يومنا هذا، وإلى قيام الساعة لا يعلمون شيئاً عن الروح، ولو أمكن الوصول إلى حقيقتها ومعرفة أسرارها لما خفيت على الإنسان في هذا الزمان، خصوصاً بعد الكشف العلمي الهائل، الذي اكتشفوا فيه حتى الفيروسات وصغار الجراثيم.

يوجد الآن ميكروسكوب إلكتروني يكبر الأجزاء والأجسام، يكبرها ثلاثة مليون مرة، فلا يوجد شيء خفي الآن، لكن الروح هل استطاعت البشرية اليوم أن تعرف عنها شيئاً؟ ما عرفت، وقد قرأت قبل فترة أن طبيباً في أمريكا أجرى أبحاثاً على الروح، وأحضر مريضاً في ساعاته الأخيرة يلفظ أنفاسه، وسلط عليه أجهزة دقيقة لقياس الحركات التي تدخل عليه وتخرج منه، عبر الأجهزة، وعبر صناديق زجاجية وهذا رصد دقيق وبعد ذلك مات الرجل ولم تسجل تلك الأجهزة أي حركة، بمعنى أن الروح لا يمكن ضبطها من قبل الإنسان ولا معرفة سرها؛ لأن الله عز وجل قال: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:٨٥].

وما دام من أمر الله فلا يمكن أن يطلع عليها أحد إلا بأمر الله، ومن الذي يطلع عليها؟ كان من الممكن أن يطلع عليها النبي صلى الله عليه وسلم، عن طريق الوحي، فهو المبلغ عن الله وما بلغنا شيئاً عن الروح، ولكنه صلى الله عليه وسلم أخبرنا بحديث واحد فقط، قال صلى الله عليه وسلم: (أول ما يتبع الروح البصر).

وأمرنا إذا حضرنا جنازة ميت أن نغمض عينيه إذا مات؛ لأن الروح إذا خرجت فالبصر يلحقها، ولهذا تجد عيني الميت مشخصة إلى الأعلى، فأمرنا الشرع أن نطبق عينيه وأن نغمض عينيه، هذا كل ما نعرفه من الروح، أما أين هي؟ وما حقيقتها؟ ومتى تأتي؟ ومتى تذهب؟ فقد أخبرنا الله عز وجل أن الروح يحصل لها مفارقة للجسد في حالتين: الحالة الأولى: حالة الموت.

الحالة الثانية: حالة النوم.

فحالة الموت تفارق الجسد نهائياً، ولا تعود إليه إلا يوم القيامة.

وحالة النوم: تفارق الجسد مفارقة مؤقتة، وتبقى على اتصال بالجسد، لكن تجد النائم لو وضعت عند أنفه رائحة عطر هل يشمها وهو نائم؟ لا.

ولو فتحت عينيه ووضعت أمامه منظراً لا يراه وهو نائم، ولو تكلمت عند أذنه بكلام بسيط لا يسمع وهو نائم لماذا؟ لأن الذي يسمع ويشم ويرى غير موجود وهي الروح، تريده أن يشم؟ تريده أن يسمع؟ تريده أن يرى؟ أيقظه يشم الرائحة، ويسمع الأصوات أين كانت الروح أثناء النوم؟ لا ندري، وقد كنت مرة وأنا أتهيأ للنوم أفكر كيف يمكن أن يأتي النوم؟ ومن أي باب يدخل، ومن أي شباك يأتي؟ وبقيت أفكر وجعلت البطانية تحت قدمي، ثم جعلت البطانية من عند رأسي ثم أدخلتها من تحت جنبي الأيسر، وأفكر الآن.

كيف أنام؟ وفجأة وإذا بي أنام وأنا لا أدري، يقول الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الزمر:٤٢].

ولهذا جاء في الحديث أن العبد إذا قام من النوم يقول: (الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور) ويقول إذا أتى لينام: (باسمك ربي وضعت جنبي، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها -أي أعدتها- فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين).

هذا كل ما نعرفه عن الروح، أما غير ذلك فلا نعرف، هذه هي سر من أسرار الله التي لا نطلع عليها، ولن نطلع عليها، ولم يطلع عليها أحد إلى يوم القيامة، هذا الجزء الثاني من أجزاء الإنسان.